الجمعة , ديسمبر 12 2025

الصحافة بين البخور وأم الخلول

كتب : مصطفي قطب

في زمن تتداخل فيه الحقيقة مع الدعاية، وتقف فيه الكلمة بين المطرقة والسندال ؛ تبدو الصحافة وكأنها واقفة على خط رفيع يفصل بين عالمين متناقضين: عالم البخور الذي يرمز للتلميع والمديح، وعالم أم الخلول الذي يحيل إلى الروائح النفاذة والحقائق المزعجة التي تخشاها كل نفس فاسدة. بين هذين العالمين تتشكل ملامح صحافة تحاول أن توازن بين أدوارها، وأن تحافظ على ما تبقى من رسالتها.

البخور: صحافة التلميع وتغطية العيوب

عندما يتحول القلم إلى أداة تطييب، يصبح الخبر أقرب إلى إعلان منه إلى مادة إعلامية. في هذا النوع من الصحافة:

تُغلف الحقائق بورق الهدايا.

تُقدّم الشخصيات العامة في صورة ملائكية.

تذوب الأسئلة الصعبة تحت حرارة المجاملات.
هذه الصحافة لا تبحث عن الحقيقة بقدر ما تبحث عن كل من ذو نفوذ وقوة، وتغدو مهمتها الأساسية صناعة صورة وردية تحجب الخلل وتستر العيوب.

ورغم أن لصحافة البخور مريديها، خاصة من الساعين إلى الاستقرار أو الخائفين من الاصطدام، إلا أنها تضعف الثقة في الإعلام وتحوّل الصحفي إلى موظف علاقات عامة.

أم الخلول: الصحافة التي تفتح الملفات وتكشف المستور

على النقيض تمامًا، تأتي صحافة “أم الخلول”؛ تلك التي لا تخشى النزول إلى القاع لالتقاط الحقيقة من بين الطين والرمال. هي الصحافة التي:

تتجرأ على كشف الفساد.

تلاحق الملفات المخفية.

تطرح الأسئلة المزعجة التي لا يريد أحد سماعها.

هذه الصحافة تعرف أن الحقيقة قد تكون كريهة الرائحة، لكنها ضرورية لحياة صحية في جسد المجتمع. لذلك، ورغم ما تواجهه من تضييق وتهديدات ونقص دعم، تبقى هي الأمل الأخير لبناء وعي حقيقي.

الواقع لا يسمح دائمًا باختيار مثالي. أحيانًا يجد الصحفي نفسه مجبرًا على الموازنة، أو على التخفيف من جرعة المواجهة، أو حتى على كتابة ما لا يرضى عنه. لكنّ امتحان المهنة الحقيقي يكمن في قدرة الصحفي على:

الحفاظ على الحد الأدنى من المهنية.

قول ما يستطيع قوله دون تزييف.

عدم التحول إلى أداة ترويج، وفي الوقت نفسه عدم الوقوع في فخ الإثارة المجانية.

فالصحافة ليست بخورًا خالصًا، ولا “أم خلول” مستمرة، بل هي قدرة على اختيار اللحظة المناسبة لكشف المستور، واللحظة المناسبة للتهذيب دون تزوير.

ما يحتاجه الواقع اليوم هو إعلام يملك الشجاعة للنزول إلى “أم الخلول” عندما يتطلب الأمر ذلك، دون أن يفقد احترامه أو يتحول إلى صحافة فضائح. وفي الوقت ذاته، لا بد أن يتجنّب البخور المفرط الذي يخدّر المجتمعات ويمنعها من رؤية حقيقة أمراضها.

الصحافة رسالة قبل أن تكون مهنة، وحقيقة قبل أن تكون سلعة. بين البخور وأم الخلول، يظل الخيار الأخلاقي هو البوصلة الوحيدة التي يجب أن تُمسك بيد الصحفي وهو يعبر هذا الطريق المليء بالتناقضات.

شاهد أيضاً

الوجه الخفي للألعاب الإلكترونية وتأثيرها على المراهقين

كتبت بوسي عواد تشهد الألعاب الإلكترونية انتشارًا واسعًا بين المراهقين حول العالم، حتى أصبحت جزءًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *