الأربعاء , سبتمبر 10 2025

فريد الأطرش .. حينما تعانق الموسيقى الفلسفة والوجدان

كتب : د. محمد جمال الدين

حين نستمع إلى فريد الأطرش، ندرك أن ألحانه لم تكن مجرد جمل موسيقية تُعزف أو تُغنى، بل كانت لغة حياة تسعى إلى ترجمة نبض القلب العربي وقلقه الوجودي في آن واحد، إذ كان فريد أشبه بفيلسوف يكتب أطروحته بالنغم، يختبر عبر الوتر معنى الحزن والفرح، ويوازن بين الإنتماء إلى التراث والإنفتاح على الحداثة، فقد عاش بين الشرق الأصيل والغرب المدهش، فمزج بين الأثنين ليصوغ أسلوباً موسيقياً لا يشبه إلا نفسه، يتردد في الذاكرة وكأنه صوت من عمق الزمن.

 

تتميز ألحان فريد الأطرش بكونها عاطفية درامية في جوهرها، تنطلق غالباً من فكرة وجدانية (الحب، الفقد، الانتظار، الأمل)، ثم تُبنى على شكل درامي متصاعد، وكأنها مشهد سينمائي مكتمل، وهذا يرجع إلى تأثره بالعمل في السينما حيث كانت الأغنية جزءاً من السرد الدرامي.

 

اعتمد فريد الأطرش كثيراً على المقدمة الموسيقية الطويلة، التي تُهيئ المستمع نفسياً قبل دخول الصوت، مثلما فعل في “أول همسة” و”حكاية غرامي”، وهذه المقدمات لم تكن زخرفة بل كانت تمهيداً فلسفياً للموضوع.

 

استخدم فريد الأطرش أسلوب التلوين المقامي داخل العمل الواحد، بحيث ينتقل من مقام إلى آخر لإبراز التحول الشعوري، ففي أغنية “يا زهرة في خيالي” مثلاً، يبدأ بمقام البياتي ثم يميل إلى الحجاز لإبراز الشجن، قبل أن يعود إلى البياتي وكأنه يلم شتات العاطفة.

 

اعتمد فريد الأطرش على الإيقاعات الراقصة في بعض الألحان مثل التانجو والفالس، ولكنه أعاد صهرها في قالب شرقي يحافظ على الطابع العربي، كما في “الحياة حلوة” و”عاطفة وذكريات”.

 

لم يكن المقام عند فريد الأطرش مجرد قالب نظري، بل كان مرآة لحالته الشعرية، ويمكن أن نلمح ثلاثة مقامات أساسية شكلت عمود تجربته، يأتي في المقدمة مقام البياتي، وهو مقام العاطفة الشعبية والروح الصافية، وقد استخدمه فريد بكثافة لأنه يعبر عن الحنين والإنفعال الداخلي، ويظهر ذلك بوضوح في “يا زهرة في خيالي” و”أول همسة”، ثم يأتي مقام الحجاز، وهو مقام الحزن العميق والبعد الروحاني، وقد لجأ إليه فريد الأطرش في المواقف التي تتطلب تعبيراً عن الشجن، كما في “يا روح” و”يا بدع الورد”، كما لا يمكن إغفال مقام الراست في أعمال فريد الأطرش، وهو مقام الوقار والإتزان، وقد استعان به في الأغاني الوطنية والملحمية، مثل “بلادي حرة” و”سورية يا حبيبتي”.

 

وبجانب هذه المقامات الشرقية، كان لفريد جرأة إدخال تلوينات غربية، حيث استعمل التانجو والفالس السامبا كما تم ذكر ذلك سلفا، لكنه مع ذلك ظل يطوع تلك التلوينات في إطار شرقي لا يفقد الهوية.

 

نقطة هامة لا يمكن إغفالها، وهي أن الحزن في موسيقى فريد الأطرش ليس ضعفاً، بل قوة جمالية تُحول الألم إلى فن خالد، فقد كانت ألحانه تجسد فكرة أن الإنسان حين يعزف أحزانه يحررها من القيود، ومن هنا أكتسب لقب “موسيقار الأحزان”، لكنه لم يكن حزناً سلبياً، بل حزناً نبيلاً يجعل المستمع أكثر صفاءً وتأملاً في معنى الحب والزمن.

 

كان فريد الأطرش ملحناً مجدداً في بنية الأغنية، فقدم الجملة الطويلة المركبة بدلاً من الجملة القصيرة المتكررة، وأدخل آلات جديدة مثل الجيتار الكهربائي والأكورديون في ألحانه، ومع ذلك ظل وفياً لآلته الأم وهي العود، الذي كان يعزف عليه بروح متصوف، وكأنه يبحث عن الحقيقة من خلال الوتر.

 

رحل فريد الأطرش تاركاً إرثاً موسيقياً ضخماً، لكنه لم يرحل في الحقيقة، لأن ألحانه ما زالت تطرح السؤال الفلسفي، وهو هل يمكن للنغم أن يكون بديلاً عن الكلام؟، إذ أن موسيقاه لم تكتفِ بإمتاع السمع، بل صاغت رؤية وجودية تقول إن الفن أعمق من أن يكون ترفيهاً، إنه وسيلة لفهم الذات والكون، فلقد كان فريد الأطرش موسيقياً يكتب مذكراته بالنغم، وصوتاً يهمس لنا عبر الزمن، “قد تفنى الأجساد، لكن الموسيقى وحدها تبقى شاهدة على الروح”.

شاهد أيضاً

افتتاح قصر ثقافة الطفل بجاردن سيتي بعد تطويره

كتب محمد جمال الدين في أجواء احتفالية تحمل عبق الفكر والفن، افتتح الدكتور أحمد فؤاد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *