بقلم : د. محمد جمال الدين
في رحاب المسرح الذي يفتح أذرعه للعوالم الساحرة، تأتي مسرحية “أبو الأحلام في دنيا الخيال” لتأسرنا في رحلة فريدة تتجاوز خشبة المسرح لتلامس شغاف القلب والعقل، إنها ليست مجرد قصة عن طفل اسمه شمس يُلقب بـ”أبو الأحلام”، بل هي مرآة تعكس الصراع الأبدي بين الخيال الجامح والواقع الصارم، فالمسرحية بتأليفها وأشعارها المبدعة للكاتب والشاعر الكبير عبده الزراع، لا تكتفي بتقديم حكاية بسيطة، بل تسبر أغوار الفكر الفلسفي الذي يؤمن بأن الإنجازات العظيمة تبدأ دائمًا كـ”فكرة” أو “حلم”، فكيف تتحول أحلام “أبو الأحلام” من مجرد رحلات في دنيا العصافير والكواكب إلى طريق مُعبد بالعلم والعمل؟، هذا ما تستكشفه المسرحية ببراعة، التي تعتبر دعوة صادقة لكل طفل وشاب بأن يطلق العنان لخياله، وأن يدرك في الوقت نفسه أن الجهد والمثابرة هما السبيل الوحيد لتحويل هذا الخيال إلى حقيقة ملموسة.
تتألف المسرحية من عدة مشاهد، تدور حول شخصية “شمس” الملقب بـ”أبو الأحلام” بسبب أحلامه المتكررة والممتدة إلى عوالم خيالية، وكيف أن هذه الأحلام تتحول تدريجيًا إلى دافع له ولأخته “قمر” لتحقيق أهدافهم في الحياة من خلال العلم والاجتهاد.
الشخصيات في المسرحية ليست مجرد أدوات سرد، بل تحمل أبعادًا رمزية، إذ أن شمس البطل، يمثل الطموح والخيال الذي يحتاج إلى توجيه أحلامه، والتي ليست مجرد هروب من الواقع، بل هي مصدر إلهام يدفعه لاستكشاف عوالم جديدة، سواء كانت في الفضاء أو تحت الماء، لكنه يدرك في نهاية المطاف أن هذه الأحلام لا تتحقق بالتمني بل بالاجتهاد والمذاكرة، كما أن
قمر أخت شمس التوأم، تمثل الجانب الفني والإبداعي، إذ إنها فنانة موهوبة في الرسم، مما يبرز أهمية الفن كأداة للتعبير عن الذات، على عكس شمس الذي يغرق في الخيال، فشخصية قمر أكثر واقعية وتوجهه نحو تحقيق أحلامه من خلال العمل الجاد.
يمثل حسون العصفور صديق شمس، الحكمة والنشاط، وهو رمز للعمل الدؤوب والسعي من أجل الرزق، ويعلم شمس أن كل كائن خلقه الله بقدرته وبمهمة محددة، أما شخصية الأم فهي المحور الذي يوجه الأبناء نحو الطريق الصحيح، وهي شخصية داعمة ومصدر للمعرفة، وتستخدم القصص والحكايات عن العلماء أمثال أحمد زويل وسميرة موسى وفاروق الباز لتحفيز شمس على ربط أحلامه بالواقع العلمي.
يمثل مستر فنون مدرس الرسم، دور المعلم الملهم الذي يشجع طلابه على التعبير عن أفكارهم بحرية، ويؤكد على أن الأحلام ليست سيئة طالما أنها لا تستهلك كل الوقت وتتحول إلى واقع ملموس.
تركز المسرحية على عدة مواضيع أساسية، من أهمهاأهمية العلم والاجتهاد، إذ تؤكد المسرحية مرارًا وتكرارًا على أن الأحلام لا يمكن أن تتحقق بالتمني، بل بالعمل الجاد والمذاكرة، وهذه الرسالة تتكرر في حوارات شمس مع والدته ومع أخته، علاوة على الخيال كأداة لإنجاز، إذ لا تقلل المسرحية من قيمة الخيال، بل تعتبره المحرك الأساسي للاختراعات والإنجازات العلمية، وهذا المفهوم يتجسد في شخصية شمس الذي يحلم بالطيران والوصول إلى الكواكب، تمامًا مثل عباس بن فرناس، بالإضافة إلى إبراز القدوة والمثل العليا، إذ أن المسرحية تستلهم من قصص العلماء المصريين والعرب مثل أحمد زويل، سميرة موسى، وعباس بن فرناس، وفاروق الباز لتقديم قدوة حقيقية للأطفال، وهذا يربط الخيال بالواقع ويجعل تحقيق الأحلام ممكنًا، مع الموازنة بين الواقع والخيال، فالمسرحية تقدم توازنًا بين العالمين، فأحلام شمس تأخذه إلى عوالم غريبة وجميلة، لكن في النهاية، أما الأم ومستر فنون يذكرونه بأن هذه الأحلام يجب أن تتحول إلى واقع.
تستخدم المسرحية أسلوبًا بسيطًا ومباشرًا يتناسب مع جمهورها المستهدف من الأطفال، فالحوار باللغة العامية المصرية، مما يجعله قريبًا من الأطفال ويسهل فهمه، كما توجد الأغاني الجماعية (الأوبرتير، أغنية العصافير، أغنية العلم، وأغنية النهاية)، وتضفي طابعًا استعراضيًا جذابًا، وتعزز الرسائل الرئيسة للمسرحية بطريقة فنية.
تختتم مسرحية “أبو الأحلام في دنيا الخيال” رحلتها الفلسفية بتأكيد عميق على أن العلم هو الحل والطريق الصحيح لتحقيق الأهداف، إذ إنها لا تهدم جسور الخيال، بل تعيد بناءها على أسس صلبة من الواقع، فـ”أبو الأحلام” يدرك في النهاية أن أحلامه التي تصله إلى القمر أو تجعله يركب بساطًا سحريًا، ليست مجرد أوهام، بل هي وقود يدفع به نحو مستقبل مشرق، وعليه فالمسرحية تعلمنا أن العالم الذي يحلم بالطيران ليس أقل شأنًا من الذي يكتشف قوانين الفيزياء، فكلاهما يمثلان تكاملًا بين الفكر المجرد والجهد الملموس، وهكذا تودعنا المسرحية برسالة مؤثرة: “ما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا”، لتترك في نفوس جمهورها بصمة تدوم، مؤكدة أن أروع القصص لا تكمن في الأحلام نفسها، بل في الشجاعة والعمل على تحقيقها، فالعلم نور يمحو الظلام، والاجتهاد هو الجناح الذي يرفرف بنا نحو كل ما هو ممكن.