كتب مصطفى قطب
يُعتبر الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه واحدًا من أبرز أعلام الإسلام وأعمقهم أثرًا في التاريخ الإسلامي. فقد كان نموذجًا للصحابي الذي جمع بين التواضع والزهد، وبين العلم الغزير والفقه الدقيق، حتى صار مدرسة قائمة بذاتها في القرآن والفقه والتفسير. ورغم بداياته البسيطة كراعي غنم فقير في مكة، فقد رفعه الله بالإيمان والعلم، ليصبح من أقرب الناس إلى النبي محمد ﷺ ومن أكثرهم تأثيرًا في الأجيال اللاحقة.
النشأة والبدايات
وُلد عبدالله بن مسعود في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية بسنوات، وكان يعمل راعيًا للغنم لدى عقبة بن أبي معيط. حياته الأولى لم تكن تبشر بمكانة كبيرة، إذ لم يكن ذا نسب رفيع أو مال وفير، لكنه امتلك قلبًا صافيًا وعقلًا متفتحًا جعلاه يتلقّى الإسلام بكل صدق.
كان من أوائل من أسلموا، ويقال إنه سادس من دخل الإسلام بعد الدعوة السرية. هذا السبق المبكر مكّنه من التشرّب من معين النبوة في مراحله الأولى، حيث كان الإسلام وقتها يواجه أشد صور الاضطهاد والمقاومة من قريش.
ملازمته للنبي ﷺ
من أبرز ما ميّز ابن مسعود قربه الشديد من النبي ﷺ، فقد كان يُعرف بـ”صاحب النعلين والسواك”، إذ كان يحمل نعلي الرسول وسواكه ويقوم بخدمته، حتى أصبح ظلًا له أينما ذهب. هذا القرب مكّنه من أن يكون شاهدًا على الكثير من تفاصيل حياة النبي الخاصة والعامة، فارتوى من أخلاقه وتربى على يديه تربية إيمانية فريدة.
وقد كان النبي ﷺ يثق بعلمه وورعه، حتى قال فيه: «من أحب أن يقرأ القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد»، وهو لقب عبدالله بن مسعود.
عبدالله بن مسعود والقرآن الكريم
كان القرآن أحبّ شيء إلى قلبه، فقد حفظه كاملًا من فم النبي ﷺ، وتلقّى تفسيره مباشرة منه. وكان من أفصح الصحابة وأحسنهم صوتًا بالقرآن، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: “كنيفٌ مليء علمًا”.
ولم يقتصر دوره على الحفظ والتلاوة، بل كان من أوائل من تصدوا لنشر القرآن جهرًا، ففي مكة قرأ سورة الرحمن في نادي قريش متحديًا جبابرتهم، فانهالوا عليه بالضرب حتى شجّوا وجهه، لكنه أصرّ وقال: “ما كانوا أهون عليّ منهم الآن”. كان بذلك أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ﷺ.
علمه وفقهه
اشتهر ابن مسعود بفقهه العميق وفهمه الدقيق لمعاني القرآن والسنة. وقد اعتمد عليه الخلفاء الراشدون في القضاء والفتوى، وبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلمًا وواليًا، وقال لأهلها: “لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي”.
في الكوفة أسّس مدرسة علمية كبرى، تخرّج منها كثير من كبار التابعين، وصارت أساسًا للمذهب الفقهي الكوفي الذي أخذ عنه الإمام أبو حنيفة فيما بعد. ومن أقواله المشهورة: “اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة”، وهو ما يعكس التزامه بالثبات على النهج الصحيح.
زهده وتواضعه
على الرغم من علمه ومكانته، كان ابن مسعود شديد التواضع والزهد. لم يسعَ إلى جاه أو مال، وعاش حياته في بساطة شديدة. وعندما عرض عليه الخليفة عثمان بن عفان عطاءً ليغنيه، رفض قائلاً: “إني أستحي أن ألقى الله وليس في صحيفتي شيء من الدنيا”.
كان يرى أن قيمة الإنسان ليست في ماله أو نسبه، وإنما في إيمانه وعلمه وعمله الصالح. وقد أثر ذلك في طلابه الذين ورثوا عنه هذا المنهج في الزهد والتمسك بالدين.
مواقفه البطولية
لم يكن ابن مسعود فقيهًا وعالمًا فحسب، بل كان مثالًا في الشجاعة والثبات على الحق. فقد شارك في الغزوات الكبرى مع النبي ﷺ، وكان له دور بارز في معركة بدر، حيث كان من أوائل من واجهوا أعداء الله. بل هو الذي أجهز على أبي جهل، عدو الإسلام اللدود، بعد أن صرعه المسلمون في بدر.
وفاته
توفي عبدالله بن مسعود سنة 32 هـ في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، ودُفن بالبقيع في المدينة المنورة. وبرحيله فقدت الأمة واحدًا من أعظم علمائها وأتقاها. لكن أثره العلمي ظل باقيًا، حيث انتقل علمه إلى التابعين ومن بعدهم، ليظل حاضرًا في الفقه الإسلامي وعلوم القرآن حتى اليوم.
إرثه وأثره
ترك ابن مسعود تراثًا ضخمًا من العلم والفقه والتفسير، وأثره في الكوفة خاصة كان عميقًا. فقد تتلمذ عليه أئمة كبار مثل علقمة والأسود والنخعي، ومنهم أخذ أبو حنيفة لاحقًا، مما جعله أصلًا من أصول المدرسة الحنفية في الفقه.
ولم يقتصر إرثه على العلم، بل ترك منهجًا في الزهد والتواضع والشجاعة في قول الحق، مما جعله قدوة للأمة في كل زمان.
إن سيرة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه تجسد رحلة إنسان بدأ حياته راعيًا بسيطًا لا يملك من الدنيا شيئًا، لكن الله رفعه بالقرآن والإيمان ليصبح من كبار العلماء وحَمَلة الرسالة. كان صوته بالقرآن يزلزل قلوب المشركين، وعلمه ينير عقول المؤمنين، وزهده يذكّر الناس بحقيقة الدنيا.
رحل عن الدنيا جسدًا، لكنه بقي حاضرًا بما قدّم، لتظل كلماته وقراءته وعلمه شاهدًا على عظمة رجل جعل القرآن منهجًا لحياته، فعاش به ومات عليه، وصار بحق “فقيه القرآن وصوت الرسالة الخالد”.