الثلاثاء , نوفمبر 4 2025

حين يُصاب مسرح الثقافة الجماهيرية بالعمى وتُصلب الموهبة على خشبة الولاء

بقلم : د. محمد جمال الدين

ليس الظلم في جوهره قهرًا سياسيًا أو اجتماعيًا فحسب، بل هو قبل ذلك إجهاض أنطولوجي للمعنى، واغتيال للمبدأ الذي به يتوازن الوجود الإنساني بين الحق والجمال، وحين يُصاب مسرح الثقافة الجماهيرية وهو مرآة الوعي الجمعي بفيروس المحاباة، تتشوه صورة الحقيقة في الوعي الثقافي العام، ويغدو الفن نفسه رهينة قوى لا ترى في الجمال إلا سلعة، ولا في الإبداع إلا وسيلة للهيمنة،

وهكذا يتحول الظلم الجمالي إلى أخطر أشكال الفساد، لأنه يقتل النور في موطن النور، ويدفن العدالة في محرابها، حيث يفترض أن تولد.

 

في فضاء مسرح الثقافة الجماهيرية، حيث يُفترض أن تُنصف الموهبة وأن يُكرم الإبداع، نرى اليوم مشهدًا كافكويًا من العبث المُمأسس، يتقدم من لا يستحق، ويُقصى من يمتلك الرؤيا، وتُدار الخشبة بأيد لم تلامس يومًا روح الفن، ولم تقرأ من المسرح إلا ما يخدم سلطتها الصغيرة، وعليه تتحول العدالة إلى شعار مُفرغ، وتُستبدل الكفاءة بالولاء، ويُغتال المعنى باسم الخبرة والتجربة، بينما تُوأد الموهبة في الظل.

 

والظلم في مسرح الثقافة الجماهيرية ليس قرارًا إداريًا، بل تشوه في البنية الإدراكية للمجتمع الثقافي، فحين يفقد هذا المسرح حسه بالحق، يفقد قدرته على التمثيل الصادق للإنسان، لذا فإن الظلم هنا ليس حرمانًا من فرصة أو تجاهلًا لموهبة، بل هو خلل في ميزان القيم الجمالية، وإنقلاب في ترتيب المراتب بين الجدارة الهيمنة، فمن يُقصي الموهوب ويُكرم المطيع لا يمارس سلطة إدارية فحسب، بل يرتكب جريمة ميتافيزيقية ضد فكرة العدالة ذاتها.

 

لقد صار المسرح في أروقة الثقافة الجماهيرية أرشيفًا للولاءات، لا مختبرًا للرؤى، وصارت الخشبة مسرحًا للقهر الإداري أكثر من كونها فضاء للحرية الإبداعية، ويصبح ما يقدم منتج تم إنتاجه بمداد النفاق، إذ وزعت أدواره بمعايير الطاعة، لمنح الضوء لمن يجيد التملق لا لمن يحمل الفكرة، وفي هذا العالم المعكوس، تتحول العدالة الفنية إلى كذبة مؤسسة، ويغدو الإبداع فعلًا مقاومًا أشبه بالصلاة السرية في معبد دنسته الأيدي العابثة.

 

والظلم في بنية مسرح الثقافة الجماهيرية هو فساد في الروح قبل النظام، ومن تأمل فلسفة أفلاطون وأرسطو وامتدادها في الفكر الحديث، يدرك أن العدالة لا تُبنى بقرارات، بل بتوازن داخلي بين الحق والمعرفة، وحين ينهار هذا التوازن، يتوحش الأدنى على الأعلى، وتُستعبد الفكرة لسطوة المنصب، فما يحدث في مسرح الثقافة الجماهيرية ليس صراعًا بين الموهبة والسلطة فحسب، بل انقلاب في النظام الأخلاقي ذاته، إذ يُكافأ العجز باسم الخبرة، ويُستبعد الإبداع باسم النظام، وتُقدم الرداءة في عباءة الرسمية، ومن هذا المنظور، يصبح الظلم الفني مرضًا أنطولوجيًا، يدمر إمكان الجمال في الوعي الجمعي، فالمسرح الذي يُدار بالظلم لا ينتج فنا، بل ينتج تشويشًا روحيًا، لأن العدالة الجمالية شرط لوجود الفن، كما العدالة الأخلاقية شرط لوجود الإنسان.

 

ومن منظور التحليل النفسي، فإن كثيرًا من الذين يمارسون هذا الظلم في مسرح الثقافة الجماهيرية ليسوا أقوياء، بل ضعفاء يبحثون عن مرآة يثبتون فيها ذواتهم الناقصة، إذ إنهم يُسقطون فشلهم على الموهوبين، فيُقصونهم ليتفادوا مواجهة هشاشتهم الداخلية، وهكذا يُصبح التعيين والاختيار والتكريم أدوات لإعادة إنتاج عقد دفينة، منها عقد النقص، والحسد، والخوف من التفوق وغيرهم، فهم لا يكرهون الموهبة لأنها متمردة، بل لأنها تُذكرهم بما ليس فيهم، ولذلك يفضلون مسرح الولاء على مسرح الوعي، والفاعل المطيع على المبدع الحر.

 

لكن الأخطر من الظالم هو الساكت عن الظلم، ففي دوائر مسرح الثقافة الجماهيرية، تتكاثر الأصوات الصامتة التي تعرف ولا تقول، ترى ولا تحتج، وذلك الصمت هو الهواء الذي يتنفسه الظلم، إنه ما وصفته حنة آرندت بـتفاهة الشر، حين يتحول الموظف الثقافي إلى ترس في آلة القهر، يمارس الإقصاء بضمير مرتاح لأنه ينفذ التعليمات، وبهذا تتحول المؤسسة من فضاء للإبداع إلى نظام مغلق من التواطؤ الصامت، حيث يُستبدل النقد بالمداهنة، والحوار بالإقصاء، والفكر بالتصفيق.

 

المسرح في جوهره ليس فن العرض، بل فن إقامة العدل بين الأفكار، والعدالة هي البنية التحتية لكل جمال، لأن الجمال الحق لا يولد من ظلم، لذلك فكل خشبة تُقصي الحق تُعلن موتها الميتافيزيقي، وإن ظلت تعج بالحركة، والخشبة التي لا تنصف لا تُبدع، والمنصة التي تُخضع الفن للإدارة، لا تُنبت معنى، إذ إن العدالة الجمالية ليست رفاهية نقدية، بل شرط الوجود المسرحي ذاته، إذ لا يمكن للفن أن يُثمر في تربة ملوثة بالولاء والعُقم المؤسّسي.

 

حين يُظلم الفن، لا يُظلم الفنان وحده، بل تُظلم الفكرة الإنسانية ذاتها، والمسرح الذي يُدار بالولاء لا يصنع وعيًا، بل يُنتج قطيعًا يصفق لمن جلده، وهنا تصبح مقاومة الظلم الجمالي فعلًا وجوديًا لا احتجاجًا إداريًا، فالمبدع الذي يرفض الخضوع، إنما يرفض العدم المقنع، إنه يقاوم ليحفظ صورة الإنسان في مرآة الجمال من التشوه، ولذلك فإن أعظم ثورة يمكن أن يقوم بها المسرحي الحر هي أن يُعيد بناء المعنى في وجه العبث، أن يصر على أن الموهبة لا تُمنح بقرار، وأن العدل لا يُستعار من مناصب، بل يُستولد من ضمير يعي أن الجمال لا يُخلق في الظلم، لذا يجب العمل تقويم المسار، ليأتي يوم لا تُقاس فيه المعايير بعدد الولاءات، بل بعمق الإبداع، يومٍ تُستعاد فيه العدالة إلى محراب الفن، فيتطهر مسرح الثقافة الجماهيريك من رماد العتمة، لأن الظلم مهما طال زمنه، لا يُنتج سوى الفراغ، بينما الموهبة مهما حوصرت، تظل نبوءة النور القادم، إذ أن الظلم في المسرح ككل ظلم، يُهزم لا بالسيف بل بالوعي، ووعي الجمال هو آخر معاقل العدالة في هذا العالم المأزوم.

شاهد أيضاً

الجمعة مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي يكرم النجم يحيى الفخراني

كتب : د. محمد جمال الدين يمنح مهرجان القاهرة الدولي للطفل العربي، برئاسة الدكتورة داليا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *