كتب مصطفى قطب
وسط حي العباسية العريق بالقاهرة، ينتصب قصر الزعفران كتحفة معمارية شاهدة على تحولات مصر التاريخية والثقافية، حيث تحوّل من مقر ملكي فخم إلى إحدى العلامات البارزة في التعليم الجامعي. القصر، الذي شيّد في بدايات القرن العشرين، يُعد اليوم المقر الإداري الرئيسي لجامعة عين شمس، لكن تاريخه أعمق من مجرد مبنى جامعي.
بُني قصر الزعفران بأمر من الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1901، على أطلال قصر قديم كان يستخدمه الخديوي إسماعيل كمكان للراحة والاستجمام، حيث اشتهرت تلك المنطقة سابقًا بزراعة نبات الزعفران، ومنها جاء الاسم. وتم تصميم القصر على الطراز الكلاسيكي الأوروبي، بلمسات معمارية فرنسية دقيقة تعكس الفخامة والرقي.
صممه المهندس الفرنسي ألكساندر مارسيل، وهو نفس المهندس الذي شارك في تصميم قصر المنتزه بالإسكندرية، وظهرت في تفاصيل البناء الدقة الهندسية وزخارف السقوف والحوائط التي مزجت بين النمط الباروكي والنهضة الجديدة.
في بداية إنشائه، كان قصر الزعفران مقرًا رسميًا لإقامة كبار الضيوف الأجانب، كما استُخدم لاستقبال بعض القناصل والسفراء. وربما تكون أبرز لحظاته التاريخية هي توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا داخل أروقته، والتي مثّلت نقطة تحول سياسية كبيرة في التاريخ المصري الحديث.
كما احتضن القصر لاحقًا عددًا من المناسبات الدبلوماسية والملكية، حتى تم ضمّه إلى وزارة التعليم العالي، ليصبح في ما بعد المقر الرئيسي لإدارة جامعة عين شمس عند إنشائها عام 1950، مما منحه دورًا محوريًا في الحياة الأكاديمية المصرية.
رغم مرور أكثر من قرن على إنشائه، لا يزال القصر يحتفظ بجماله وأصالته. فقد خضع لعدة عمليات ترميم على مدار العقود الماضية، بهدف الحفاظ على طابعه التاريخي، مع تحديث بعض مرافقه ليتناسب مع وظيفته الإدارية الحديثة.
يضم القصر مكاتب إدارة الجامعة، بالإضافة إلى قاعة كبرى تُستخدم في الاجتماعات الرسمية والمؤتمرات. أما الزوّار، فبإمكانهم مشاهدة سلالمه الرخامية المزينة بالنقوش، والثريات الكريستالية المبهرة، إلى جانب الحدائق المحيطة التي تضيف للقصر لمسة من البهاء والهدوء وسط صخب العاصمة.
يُعد قصر الزعفران مثالًا حيًا على التلاقي بين الماضي والحاضر؛ فبين جدرانه تجد عبق التاريخ الملكي، وفي قاعاته تُصاغ سياسات التعليم في واحدة من أعرق جامعات مصر. إنه ليس مجرد مبنى، بل رمز للهوية الوطنية، يجسد كيف يمكن للتراث أن يندمج بسلاسة مع الحداثة لخدمة المجتمع.
قصر الزعفران بالعباسية ليس فقط شاهداً على عصر الخديويات، بل مرآة حية للتحولات التي مرت بها مصر من الملكية إلى الجمهورية، ومن الحكم الفردي إلى عصر التعليم والعلم. وبين جنباته، تظل صفحات التاريخ مفتوحة، تخبر كل زائر أن هذا الصرح لم يكن يومًا مجرد قصر، بل قصة وطن.