السبت , يونيو 7 2025

سرقة الإبداع وباء يهدد الثقافة والمجتمع

بقلم : د. محمد جمال الدين 

تحولت سرقة الأعمال الفنية والبحثية من السيناريوهات والألحان والنصوص المسرحية إلى التصميمات الفنية والرؤى الإخراجية والرسائل العلمية، إلى وباء ينهش جسد المشهد الثقافي والإبداعية في مصر، وهذه الظاهرة لا تمثل مجرد انتهاك لحقوق الملكية الفكرية، بل هي خيانة للمبادئ الأساسية للإبداع والابتكار، وتدمير منهجي لأسس التقدم المعرفي والفني في المجتمع.

 

ومن البديهي أن السارق لا يمكن أن يكون فنانًا حقيقيًا، أو مبدعًا أصيلًا، أو باحثًا جادًا، فالإبداع يتطلب جهدًا فكريًا، تفكيرًا عميقًا، وموهبة فطرية تُصقل بالعمل الدؤوب، والسارق على النقيض، إذ أنه شخص يتطفل على جهود الآخرين، يقتات على عرقهم الفكري والفني، ويقدمه كذبا على أنه ملكه، وما يتم ضبطه من سرقات سواء في الأوساط الفنية أو الأكاديمية، لا يمثل إلا غيضًا من فيض، إذ أن هذه الحالات تكشف عن اعتياد هؤلاء الأفراد على السرقة، ولو تم التقصي والبحث وراء كل ما قدموه، لتم اكتشاف أن جل إنتاجهم مسروق أو مستلهم بطريقة غير مشروعة، وهذا السلوك الإجرامي لا يتوقف عند حد السرقة المباشرة، بل يمتد إلى تشويه الحقائق وتزييف الإنجازات، مما يقوض الثقة في المنظومات الفنية والأكاديمية على حد سواء.

 

إن هذه السرقات ليست مجرد جنح بسيطة، بل هي جرائم خطيرة ذات تداعيات كارثية على المجتمع بأسره، تقضي على التحفيز للإبداع، فعندما يرى الفنان أو الباحث أن جهده يمكن أن يُسرق بسهولة دون عقاب رادع، يفقد الرغبة في الإنتاج والابتكار، فلماذا يبذل جهدًا ووقتًا ومالًا في سبيل فكرة أصيلة، بينما يمكن لآخر أن يجني ثمارها بلا عناء؟ وهو ما يؤدي إلى شلل ثقافي وفكري، حيث تتراجع جودة المحتوى وتندر الأعمال الأصلية، وينتشر التقليد والتكرار.

تؤدي أيضا تلك الجرائم إلى تزييف القيم والمعايير، فعندما يتصدر السارقون المشهد، ويوصفون بالمبدعين والنجوم، فإن ذلك يرسل رسالة خطيرة للجمهور وللأجيال القادمة بأن النجاح لا يتطلب الموهبة والاجتهاد، بل يتطلب الجرأة على السرقة المناورة، وهو ما يفسد الذوق العام، ويشجع على الرداءة، ويساهم في انهيار المنظومة الأخلاقية للمجتمع.

 

كما تضرب هذه الجرائم في الصميم مصداقية المؤسسات الثقافية والأكاديمية، فعندما تُكتشف سرقات في أعمال أكاديمية، تتزعزع ثقة الجمهور في الشهادات العلمية والبحوث المقدمة، وعندما تتفشى السرقات في الأعمال الفنية، يفقد الجمهور الثقة في جودة الإنتاج الفني وتصبح الصناعة برمتها محل شك وريبة، وهذا يضعف دور هذه المؤسسات في التنوير والتثقيف وتقديم المعرفة الأصيلة.

 

لقد وصل المشهد الثقافي والفني في العديد من المجتمع إلى درجة الانهيار شبه الكامل بسبب هذه الظاهرة المقترنة بـالشللية وهيمنة معدومي المؤهلات والمواهب، وهؤلاء الأفراد الذين يفتقرون إلى الموهبة الحقيقية والقدرة على الإبداع، هم من يتصدرون المشهد بفعل المحسوبية والعلاقات الشخصية، لا الكفاءة، ويقومون بتمرير الأعمال المسروقة أو الرديئة، بل ويعمدون إلى إبعاد كل ما هو حقيقي ومبدع من الساحة، وذلك لضمان استمرارهم في مواقعهم وسلطتهم، وهؤلاء وجودهم يمثل حاجزًا منيعًا أمام المبدعين الحقيقيين، الذين يجدون أبواب الفرص موصدة في وجوههم، بينما يُفتح الباب على مصراعيه للسارقين والمدعين.

 

ولمواجهة هذا الوباء، بات من الضروري اتخاذ إجراءات مشددة وعقوبات صارمة ضد السارقين، إذ يجب أن تكون هذه العقوبات رادعة بما يكفي لثني أي شخص يفكر في السرقة، وأن تتجاوز مجرد الغرامات المالية لتشمل السجن والتشهير العلني، إذ يجب أن يُنظر إلى هذه الجرائم على أنها جنايات تستحق أشد العقوبات، وأن تكون هناك آليات سريعة وفعالة للكشف عن السرقات والبت في القضايا.

إضافة إلى ذلك يجب على المجتمع أن يتبنى موقفًا حازمًا تجاه هؤلاء الأشخاص، وأن يتم نبذهم بشكل كامل من أي محفل فني أو أكاديمي، كما يجب أن يُحرم السارق من أي فرصة لتقديم أعماله، وأن يُسحب منه أي اعتراف أو تكريم حصل عليه بغير وجه حق، وهذا يتطلب تفعيل دور النقابات والجمعيات المهنية، وتطوير آليات للكشف عن الانتحال العلمي والفني، وتعزيز ثقافة احترام الملكية الفكرية.

 

إن سرقة الإبداع هي سرقة لمستقبل أمة، وتدمير لقدرتها على الابتكار والتقدم، إن لم يتم التصدي لهذه الظاهرة بحزم وصرامة، فإننا سنشهد مزيدًا من الانهيار في كل من المشهد الثقافي والفني، وسنغرق في بحر من الرداءة والتقليد، وعليه فإن حماية الإبداع هي حماية لمستقبل الأجيال القادمة، وضمان لمجتمع يزدهر بالعلم والفن والأصالة.

شاهد أيضاً

نقاد وفنانون يناقشون “الدور الأخير”

كتب : محمد جمال الدين تحت رعاية الأستاذة الدكتورة غادة جبارة، رئيس أكاديمية الفنون، والدكتور …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *