بقلم : د. محمد جمال الدين
في إطار رسالته الثقافية والتنويرية، وبدافع راسخ للإيمان بدور الفن في بناء الوعي الإنساني منذ الطفولة، أقام اتحاد كتاب مصر أمس ندوة فكرية نقدية موسعة حول قضايا مسرح الطفل، خُصص جزءها المحوري لمناقشة وتحليل مسرحية «كوكب سيكا» للباحث والكاتب والشاعر الكبير عبده الزراع، أحد أبرز رموز الكتابة للطفل في الثقافة العربية المعاصرة.
جاءت الندوة بتنظيم شعبة السيناريو والدراما المسرحية برئاسة السيناريست والكاتب الكبير إبراهيم محمد علي، في سياق مشروع ثقافي واع يسعى إلى إعادة الاعتبار لمسرح الطفل بوصفه أحد أخطر وأهم أدوات التكوين الجمالي المعرفي والوجداني للإنسان.
افتُتحت الندوة برؤية عميقة تؤكد أن مسرح الطفل لم يعد مجرد وسيلة ترفيهية أو نشاطًا هامشيًا موجهًا للصغار، بل هو فعل ثقافي تأسيسي، يحمل في داخله مشروعًا تربويًا، وفلسفة جمالية، ومسؤولية أخلاقية، تستهدف بناء الإنسان القادر على التفكير، والخيال، والحلم، والمسألة، ومن هذا المنطلق، جاء اختيار مسرحية «كوكب سيكا» لعبده الزراع، بوصفها نموذجًا نصيًا ثريًا، يجمع بين البعد الجمالي والبعد القيمي، ويؤسس لعلاقة جديدة بين الطفل والمسرح، قائمة على الدهشة، والمشاركة، وتحرير الخيال.
استهل المناقشة الدكتور علي خليفة، الذي قدم قراءة تحليلية معمقة حول جماليات الكتابة للطفل في مسرح عبده الزراع، مؤكدًا أن تجربة الزراع تنطلق من وعي دقيق بطبيعة المتلقي الطفل، وقدرته على الفهم والتأويل والتفاعل، بعيدًا عن النزعة التبسيطية أو الخطابية المباشرة، وتناول الدكتور علي خليفة مسرحية «كوكب سيكا» بوصفها نصًا يعتمد على بناء عالم تخييلي مفتوح، وخلق شخصيات قادرة على تمثيل القيم دون افتعال، مع استخدام لغة مسرحية شفافة تحترم عقل الطفل وتستفز خياله، كما توقف عند السمات العامة لمسرح الطفل، مؤكدًا أن نجاحه مرهون بقدرته على المزج بين المتعة والمعرفة، وبين اللعب والتفكير، وبين الخيال والواقع، وهو ما تحقق بوضوح في تجربة عبده الزراع.
ثم جاءت كلمة الدكتورة ناهد الطحان، التي أكدت على الأهمية البالغة لمسرح الطفل بوصفه رافدًا أساسيًا من روافد التربية الجمالية، مشيرة إلى الدور المحوري الذي يلعبه المسرح المدرسي في اكتشاف المواهب، وتشكيل الوعي الفني لدى الأطفال، وتطرقت الدكتورة ناهد إلى تجاربها الفنية والمشروعات الإبداعية التي جمعتها بالأستاذ عبده الزراع، كاشفة عن خصوصية أسلوبه في التعامل مع الطفل بوصفه شريكًا في الفعل الإبداعي، لا مجرد متلق سلبي، كما قدمت قراءة نقدية دقيقة لأساليب الكتابة عند عبده الزراع، مركزة على، الاقتصاد اللغوي الدال، وبناء الحدث على أساس السؤال لا الإجابة، واحترام البعد النفسي والمعرفي للطفل، وتوظيف الخيال بوصفه أداة للتنوير لا للهروب، كما تناولت مسرحية «كوكب سيكا» باعتبارها نموذجًا نصيًا قادرًا على العبور من المحلي إلى الإنساني، ومن اللحظة الآنية إلى الأفق الكوني.
وفي كلمته طرح الدكتور محمد جمال الدين رؤية فلسفية معاصرة حول ضرورة إعادة صياغة المساحة المسرحية، مؤكدًا أن التحدي الأكبر الذي يواجه مسرح الطفل اليوم يتمثل في جماليات السوشيال ميديا وقدرتها الهائلة على جذب الطفل بصريًا وذهنيًا، ودعا إلى تقديم عروض مسرحية في فضاءات مغايرة وغير تقليدية، وكسر الحاجز بين الخشبة والجمهور، مع إشراك الطفل فعليًا في العرض المسرحي بوصفه عنصرًا حيًا في العملية الإبداعية، ثم تناول بالتحليل مسرحية «كوكب سيكا» من زاوية تقنيات الكتابة المسرحية، مشيرًا إلى أن عبده الزراع يكتب نصًا قابلًا لإعادة التشكيل البصري، ومفتوحًا على احتمالات إخراجية متعددة، وهو ما يمنح النص قدرة على الصمود في مواجهة الوسائط الرقمية الحديثة.
وتحدث بعد ذلك الكاتب الكبير محمد عبد الحافظ ناصف، خلال كلمته عن مسرح الطفل ودوره الحيوي في المشهد الثقافي المصري، مسلطًا الضوء على الكم الكبير من العروض التي ينتجها مسرح الطفل في إطار الثقافة الجماهيرية كل عام، كما أكد على الدور المهم الذي يلعبه المركز القومي لثقافة الطفل في دعم هذا المجال، مشيرًا إلى ضرورة الربط بين الكم والكيف، وبين الإنتاج والرؤية، ثم قدم قراءة نقدية واعية لسمات وتقنيات الكتابة عند عبده الزراع، معتبرًا أن مسرحية «كوكب سيكا» تمثل علامة فارقة في مسار الكتابة للطفل، لما تحمله من وعي فني، وعمق إنساني، وقدرة على مخاطبة الطفل بلغة تحترمه.
وفي كلمة خاصة له، تحدث الباحث والكاتب والشاعر الكبير عبده الزراع معربًا عن خالص شكره وتقديره للحضور من القامات العلمية والثقافية والفكرية الكبيرة، ولجميع الضيوف المشاركين في الندوة والمناقشة، مؤكدًا أن هذا التفاعل النقدي الجاد حول مسرح الطفل يمثل دعمًا حقيقيًا للمبدع وللقضية الثقافية التي ينتمي إليها هذا الفن شديد الخصوصية، ثم تطرق عبده الزراع في حديثه إلى نصه المسرحي «كوكب سيكا»، كاشفًا عن بعض ملامح الرؤية الفكرية والجمالية التي انطلق منها النص، ومشيرًا إلى أن العمل موجه بالأساس إلى الطفل بوصفه كائنًا قادرًا على التأمل والدهشة والتفاعل الخلاق، لا مجرد متلق للرسائل المباشرة.
كما تناول فلسفته في الكتابة لمسرح الطفل، موضحًا أن عمله الطويل في الثقافة الجماهيرية واحتكاكه المباشر والمستمر بالطفل، إلى جانب خبراته الثقافية المتراكمة في مجال أدب الطفل، أضافت له الكثير على مستوى الوعي بطبيعة هذا المتلقي الخاص، وباحتياجاته الجمالية والمعرفية والنفسية، وهو ما انعكس بوضوح في نصوصه المسرحية، وقد أكد عبده الزراع أنه وهو يكتب لمسرح الطفل يضع الصورة المسرحية نصب عينيه، معتبرًا أن النص لا ينفصل عن العرض، وأن خصوصية مسرح الطفل تفرض على الكاتب أن يفكر بصريًا ودراميًا في آن واحد، بما يحقق التكامل بين الكلمة، والحركة، والخيال، ويجعل المسرح تجربة حية ومؤثرة في وجدان الطفل.
وقد أدار الندوة والمناقشة السيناريست والكاتب الكبير إبراهيم محمد علي، الذي قدم رؤية متكاملة حول مسرح الطفل وما يقدمه، وما يستطيع أن يقدمه مستقبلًا في تربية النشء وبناء الإنسان، وأكد في إدارته ومداخلاته أن مسرح الطفل ليس ترفًا ثقافيًا، بل ضرورة حضارية، وأن الاستثمار فيه هو استثمار في المستقبل، داعيًا إلى تكاتف المؤسسات الثقافية والتعليمية والفنية من أجل مشروع وطني شامل لمسرح الطفل.
واختُتمت الندوة والمناقشة بتأكيد جماعي على أن مسرح الطفل هو أحد أهم أشكال المقاومة الثقافية في زمن التشتت البصري والسطحية الرقمية، وأن نصوصًا مثل «كوكب سيكا» لعبده الزراع تمثل ضرورة إبداعية، لا مجرد تجربة فنية، لذا يمكن القول أن هذه الندوة قد كشفت عن وعي نقدي عميق، ورغبة صادقة في إعادة الاعتبار لمسرح الطفل، بوصفه مساحة للحلم، ومنصة للتفكير، وجسرًا بين الفن والحياة، وبين الطفل والمستقبل، وعليه فلم تكن هذه الندوة مجرد لقاء عابر، بل بيانًا ثقافيًا يؤكد أن الأمة التي تحسن مخاطبة طفلها، هي الأمة القادرة على صناعة غدها.
المحطة الإخبارية جريدة إليكترونية شاملة