بقلم : د. محمد جمال الدين
تتألق النصوص المسرحية الموجهة للأطفال كأحد أهم الروافد الثقافية والتربوية التي تسهم في صقل شخصية الطفل وتنمية قدراته العقلية الإبداعية، إذ إنها ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة تعليمية فعالة تقدم القيم والأخلاق الحميدة وتغرس المفاهيم الإيجابية في نفوس النشء بطريقة شيقة وممتعة.
وتكمن قوة هذه النصوص في قدرتها على جذب الطفل والتأثير فيه بشكل مباشر من خلال القصص والشخصيات التي يراها على خشبة المسرح، مما يجعله يفهم العالم من حوله ويتفاعل معه بوعي أكبر، كما يُعتبر توظيف التراث والشخصيات التراثية في نصوص مسرح الطفل نهجًا فنيًا وتربويًا بالغ الأهمية، إذ يربط الطفل بجذوره الثقافية ويعزز لديه الشعور بالهوية والانتماء.
تبرز أهمية هذا التوظيف بشكل جلي في مسرحية “محاكمة جحا” تأليف الدكتور علي خليفه، أحد أهم الباحثين المهتمين بأدب الطفل بشكل عام، ومسرح الطفل بوجه خاص، حيث اختار الدكتور علي خليفه شخصية جحا، التي تمثل جزءًا أصيلًا من الذاكرة الشعبية العربية، ليقدم عملًا مسرحيًا يجمع بين المتعة والفائدة.
نجح الكاتب الدكتور علي خليفه في تقديم التراث والشخصيات التراثية في هذا النص من خلال عدة أدوار رئيسية منها، خلق جاذبية فورية إذ أن شخصية جحا معروفة ومحبوبة لدى الكبار والصغار، حيث يتناقل الناس نوادره ومواقفه الطريفة، وهو ما يجعل الطفل أكثر استعدادًا لمتابعة أحداث المسرحية والتفاعل معها، لأنها تقدم له شخصية مألوفة من عالمه، علاوة على تقديم القيم والحكمة بطريقة مبسطة فعلى الرغم من أن جحا معروف بفكاهته وظرفه، تكشف المسرحية عن بُعد جديد في شخصيته وهو الحكمة، فجحا لا يكتفي بإضحاك الناس، بل يدافع عن قيمه ومبادئه، ويقدم تعريفًا جديدًا للعمل المنتج، ويؤكد على أهمية القناعة والحرية، بالإضافة إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر من خلال تقديم شخصية جحا في سياق معاصر (محاكمة)، إذ يتعلم الطفل من خلال ذلك أن القيم التي جسدتها هذه الشخصية التراثية، مثل الذكاء والطيبة والرضا، ما زالت صالحة ومهمة في الوقت الحاضر.
يمثل جحا في هذا النص رمزًا للكوميديا التي تحمل في طياتها رسالة، فضحكاته ونوادره ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي أداة لإدخال السرور على النفوس وإزالة الانقباض من الصدور، كما حدث مع السلطان نفسه، وهو ما يرسخ لدى الطفل فكرة أن الفكاهة يمكن أن تكون وسيلة للتعبير عن الحكمة والمعاني العميقة.
وعليه يمكن القول أن المؤلف استطاع عبر توظيف شخصية جحا التراثية، أن يقدم نصًا مسرحيًا ممتعًا ومفيدًا، يربط الطفل بجذوره الثقافية ويقدم له دروسًا أخلاقية وإنسانية هامة بطريقة شيقة ومرحة.
تُعد مسرحية “محاكمة جحا” للأطفال، التي تتكون من فصل واحد، عملًا كوميديًا يجمع بين الطرافة والحكمة، ويسلط الضوء على عدة أبعاد درامية وتربوية وأخلاقية، من خلال بناء درامي متقن يتناسب مع جمهورها المستهدف، فشخصية جحا الرئيسة، تجمع بين الظرف والحكمة، ويتميز بعفويته وتلقائيته وعدم رغبته في التخلي عن حريته، حتى لو كان ذلك مقابل منصب الوزارة أو السلطنة، وهنا يمثل جحا رمزًا للسعادة والبساطة والرضا بالقليل، فهو لا يرى عمله في إضحاك الناس أقل أهمية من أعمال من هم في مجلس القضاء.
جاءت شخصية السلطان كشخصية مثالية تسعى لتحقيق العدل لرعيتها، إذ يأتي إلى مجلس القضاء للتأكد من خلو البلاد من أي ظلم، ويتأثر بحكمة جحا وكلماته، ويقتنع بأهمية عمله في نشر الضحك والسرور، كما أن شخصية الوزير شخصية سلبية يغلب عليها الطمع، وهو من يتهم جحا بالبطالة والتسول والسخرية من الناس، ويحاول جاهدًا أن يثبت إدانته، ويتضح في نهاية المسرحية أن دوافعه لمحاكمة جحا شخصية، حيث يرغب في الاستيلاء على أرض جحا لبناء قصر، أما شخصية القاضي فهو رجل حكيم وعاقل، يسعى لتطبيق العدل، ويناقش التهم الموجهة لجحا قبل إصدار أي حكم، كما يتعجب من كلام جحا وحكمته، ويؤيد السلطان في رأيه ببراءة جحا.
يظهر حمار جحا كشخصية تابعة لجحا، حيث يعتبره جحا جزءًا من نفسه، ويعطي وجوده في المسرحية لمسة كوميدية ويؤكد على بساطة جحا وعلاقاته المميزة مع من حوله.
يبدأ الصراع في المسرحية بوجود تهمة موجهة ضد جحا، وهي أنه شخص عاطل في مجتمع عامل، ويتطور الصراع ليكشف عن الدوافع الخفية للوزير، والتي تتمثل في طمعه في أرض جحا، وينتهي الصراع بانتصار العدل على الظلم، حيث تتم تبرئة جحا، ويعاقب الوزير على تصرفاته ويتم عزله من منصبه.
تتسم الحبكة هنا في تلك المسرحية بالبساطة والوضوح، حيث تبدأ بمحاكمة جحا وتهمة البطالة الموجهة إليه، ثم تتصاعد الأحداث مع دفاع جحا عن نفسه وتقديمه لحجج منطقية ومقنعة، وتصل الحبكة إلى ذروتها عندما يكشف جحا عن السبب الحقيقي وراء محاكمته، وهو طمع الوزير في أرضه، وتنتهي الحبكة بحكم السلطان بعزل الوزير، وتقديم منصب الوزارة لجحا الذي يرفضه، مما يؤكد على قيمه ومبادئه.
وعليه تقدم المسرحية مجموعة من الدروس الأخلاقية القيمة للطفل، منها أهمية العدل إذ تؤكد المسرحية على أهمية العدل كقيمة عليا، حيث يحرص السلطان والقاضي على تطبيقه، حتى وإن كان المتهم هو جحا، كما أن العقاب يطال الوزير نفسه عندما يتبين ظلمه، كما تحاول المسرحية إبراز فكرة العمل المنتج مقابل العمل الروحي، إذ تقدم المسرحية مفهومًا مختلفًا للعمل، فبينما يرى الوزير والسلطان في البداية أن العمل يجب أن يكون “منتجًا ماديًا”، يوضح جحا أن عمله في “إضحاك الناس” و”زرع الإبتسامات في وجوههم” لا يقل أهمية، فهو يروي النفوس البشرية بالضحك والسرور، كما تروى الأرض بالماء.
تبرز المسرحية إلى جانب ذلك قيمة القناعة والرضا، إذ يجسد جحا قيمة القناعة والرضا بالقليل، حيث يكتفي هو وأسرته بما تنتجه أرضهم الصغيرة، في سبيل العيش في صفاء وسلام، كما تدعم المسرحية قيمة الحرية مقابل المنصب، إذ تقدم المسرحية درسًا أخلاقيًا عميقًا حول قيمة الحرية، حيث يفضل جحا حريته وعفويته وتلقائيته على أعلى المناصب، رافضًا منصب الوزير الذي يراه قيدًا على حريته.
تدور أحداث المسرحية في مجلس القضاء، وهو مكان يرمز للعدل والسلطة، ويحتوي على أماكن مخصصة للقاضي والحاجب المتهمين، كما تدور أحداث المسرحية في يوم واحد، مما يجعلها مناسبة لكونها مسرحية من فصل واحد، وقد استخدم المؤلف الدكتور علي خليفه في المسرحية لغة فصحى بسيطة وسهلة الفهم، مما يجعلها مناسبة لجمهور الأطفال.
وعليه تُعد مسرحية “محاكمة جحا” عملًا مسرحيًا متكاملًا، يجمع ببراعة بين الكوميديا والحكمة، ويقدم للأطفال دروسًا تربوية وأخلاقية عميقة، مثل أهمية العدل، وقيمة القناعة والحرية، والمفهوم الشامل للعمل المنتج، وقد تمكن المؤلف الدكتور علي خليفه من تحقيق ذلك من خلال شخصيات محببة وحبكة درامية بسيطة ومشوقة، مما يجعل المسرحية نموذجًا مثاليًا للنصوص المسرحية الموجهة للطفل التي تثري فكره ووجدانه.