بقلم : د. محمد جمال الدين
تمثل المسرحية المونودرامية الكوميدية للأطفال “الأراجوز وحيداً” للمؤلف الدكتور علي خليفة، تحفة فنية تستحق التأمل والتحليل العميق، لا سيما في سياق مسرح الأطفال الذي غالباً ما يُنظر إليه على أنه مجرد وسيلة للترفيه السطحي، ولكن في هذا النص، يرتفع المؤلف بمفاهيم مسرح الطفل إلى آفاق أبعد، مقدماً عملاً يجمع بين البساطة المبهجة والعمق الفلسفي، والجمال الفني، والقيمة التربوية العميقة.
يقدم لنا في مسرحية “الأراجوز وحيداً” الدكتور علي خليفة شخصية الأراجوز التي طالما ارتبطت بالجمع والتنوع، في حالة من الإنعزال والتفرد، إذ يبدأ الأراجوز رحلته وهو يشعر بالزهو والسعادة بعد أن تخلص من جميع العرائس التي كانت تشاركه شباك العرض، معتقداً أن الوحدة هي السبيل لإظهار مواهبه الحقيقية، وهذا المشهد الإفتتاحي لا يمثل مجرد بداية مسرحية، بل هو إستعارة فلسفية لوضع الإنسان المعاصر الذي يسعى إلى التفرد المطلق، متوهماً أن عظمته تكمن في تهميش الآخرين.
تبدأ المسرحية من نقطة الإنعزال الفردي، لتأخذنا في رحلة نفسية عميقة تكشف زيف هذا الإدعاء، وتؤكد على أن الوجود الحقيقي لا يكتمل إلا بالآخر، إنها دعوة للتفكير في ماهية الأنا في مواجهة الجماعة، وجدلية الوحدة والانسجام.
يُظهر الدكتور علي خليفة في هذا العمل براعته في فهم سيكولوجية الطفل، وقدرته على توظيف أدوات المسرح لخلق تجربة تعليمية ممتعة، فالمؤلف من خلال استخدامه لشخصية الأراجوز التي يعرفها الأطفال جيداً، يقدم لهم مفاهيم معقدة مثل قيمة الإعتذار، وأهمية التعاون، ومخاطر الغرور، بطريقة سهلة ومباشرة، كما إن اختيار الأراجوز كشخصية محورية كان اختياراً موفقاً، لأنه يجمع بين الكوميديا والبساطة، مما يجعله قادراً على التواصل مع الأطفال على مستويات مختلفة، بالإضافة إلى ذلك، فإن خلفية المؤلف الأكاديمية والمسرحية تظهر في البناء المحكم للنص، والتحولات الدرامية التي تمر بها الشخصية الرئيسة، مما يثبت أن مسرح الطفل ليس مجرد مسرح، بل هو وسيلة للتفكير والتأمل.
تتميز المسرحية ببنائها الدرامي المتصاعد الذي يبدأ من ذروة الغرور وينتهي بالندم والإعتراف بالخطأ، ففي بداية المسرحية يظهر الأراجوز وهو سعيد لأنه أصبح “الكل في الكل” و “أهم عروسة”، ويبرر الأراجوز تخلصه من شخصيات العرض الأخرى بطريقة ساخرة، معتقداً أن تصرفاته كانت مبررة، فهو يصف زوجته وابنه بأنهم “ضجرا من الضرب والشتم”، والغفير الذي يريد أن يصبح ضابطاً، والحانوتي الذي يريد أن يكون “شاباً حبيباً”، والعفريت الذي يرفض شكل قرنيه الطويلي، وهنا يستخدم المؤلف أسلوب “التبرير السلبي”، حيث يحاول الأراجوز إقناع نفسه والجمهور بأنه لم يظلم أحداً، وأن كل واحد منهم “استغنى عنه”، ولكن مع مرور الوقت يبدأ الأراجوز في الشعور بالملل والوحدة، ويعترف بأن الوحدة “وحشة”، وهذا التحول الدرامي يمر بمراحل، هي مرحلة الإنكار حيث يحاول الأراجوز إقناع نفسه بأنه لا يحتاج إلى أحد، مردداً عبارة “أنا الكل في الكل”، ثم مرحلة الإعتراف الجزئي حيث يعترف بأن “الوحدة وحشة” ولكنه يرفض الاعتذار، ثم مرحلة التنوير وهي المرحلة الحاسمة التي يعترف فيها الأراجوز بخطئه، ويقر بأن “الأراجوز” ليس مجرد شخصية واحدة، بل هو “هو ومراته وابنه وكل صحابه”، وأن “حلاوتهم في لمتهم”.
استخدم المؤلف أسلوب المونولوج ببراعة، حيث يكون الأراجوز هو المتحدث الوحيد، مما يسمح للجمهور بالدخول إلى عالمه الداخلي وتتبع تحولاته النفسية، كما أن استخدام الصمت “بعد صمت قليل” في النص كان أداة فنية قوية، حيث يعكس حالة التفكير والتأمل التي يمر بها الأراجوز، ويمنح الجمهور فرصة للتفكير في ما قاله.
تميز النص بالعديد من الأهداف التربوية الواضحة والمباشرة، منها قيمة الجماعة والتعاون، إذ يؤكد النص على أن الفرد لا يمكن أن يحقق النجاح والسعادة بمفرده، وأن “الأراجوز” الحقيقي يكمن في “لمة” الأصدقاء والعائلة، وأهمية الاعتذار، إذ يتعلم الأراجوز وبالتالي الجمهور، أن الإعتذار ليس ضعفاً، بل هو قوة وشجاعة، وأنه السبيل الوحيد لإصلاح العلاقات، علاوة على نبذ الأنانية والغرور، إذ يوضح النص كيف أن الغرور والأنانية يمكن أن يؤديا إلى الوحدة والتعاسة، وأن إحترام الآخرين وتقديرهم هو أساس العلاقات الصحية.
تتجلى في النص مجموعة من الأساليب الجمالية وتظهر في بساطة الأسلوب وعمق المعنى، فاللغة المستخدمة في المسرحية سهلة ومناسبة للجمهور المستهدف، ولكنها تحمل في طياتها مفاهيم فلسفية عميقة، كما إن النهاية السعيدة التي يعلن فيها الأراجوز عن عودة جميع أصدقائه، هي نهاية تبعث على الأمل، وتؤكد على أن الفرصة موجودة دائماً لتصحيح الأخطاء.
وعليه فإن “الأراجوز وحيداً” ليست مجرد مسرحية للأطفال، بل هي مرآة تعكس تجربة إنسانية عالمية، إنها قصة كل من شعر يوماً بالرغبة في التفرد، ليجد أن السعادة الحقيقية تكمن في الجمع، إذ يخرج الأراجوز من حالة العزلة والغضب ليصبح شخصية أكثر نضجاً وإنسانية، ويعترف بأن “الأراجوز ليس مجرد عروسة”، بل هو نسيج من العلاقات والأصوات المختلفة، وبهذا يترك لنا الدكتور علي خليفة رسالة خالدة مفادها أن الحياة الحقيقية لا تُقاس بمدى قدرتنا على التخلص من الآخرين، بل بمدى قدرتنا على ضمهم وتقبلهم، لأن “حلاوتهم في لمتهم”.