بقلم : د. محمد جمال الدين
تعتبر مسرحية “بلياتشو ع المعاش” للدكتور علي خليفة، والتي تُصنف كمسرحية مونودراما كوميدية للأطفال في فصل واحد، عملًا غنيًا بالدلالات الفلسفية والإنسانية التي تتجاوز مجرد كونها عرضًا ترفيهيًا للصغار، إذ إنها رحلة عميقة في أعماق النفس البشرية، من خلال تناول صراع الفنان مع الزمن، وتحدي الهوية، والبحث عن المعنى في مواجهة التهميش والإهمال.
ففي عالم يقدس الجديد ويطوي صفحة القديم، تبرز مسرحية الأطفال “بلياتشو ع المعاش” كصرخة مدوية ضد فكرة إنتهاء الصلاحية، فالمسرحية تطرح تساؤلات وجودية عن قيمة الإنسان بعد أن يشيخ، وعن ماهية الفن هل هو مجرد وظيفة أم هوية ملازمة للذات، فالبلياتشو هنا هو رمز للسعادة والضحك، وهو الذي يجد نفسه في مواجهة مرآة الزمن التي تعكس له صورة عاجزة وبطيئة، وهو ما يدفعه لرفض الواقع ومواجهة العدم، رافضًا فكرة أن يتحول إلى مجرد ذكرى، وعلى ذلك فهو يمثل صراعًا كونيًا بين الماضي الذي كان مليئًا بالحياة والإبداع، والمستقبل الذي يلوح له بالوحدة والنسيان.
يعتمد المؤلف د. علي خليفة على بنية المونودراما ليقدم لنا عالمًا داخليًا ثريًا ومعقدًا لشخصية فالبلياتشو، وهذا الإختيار الفني ليس مجرد صدفة، بل هو أداة فعالة للغوص في أعماق الشخصية، حيث يكون البطل هو المتحدث الوحيد، والراوي، والمحاور لذاته وللجمهور في آن واحد.
تبدأ المسرحية بمشهد مأساوي داخل منزل البلياتشو العجوز، حيث تظهر لوحات كثيرة له في شبابه بالسيرك، مما يخلق تباينًا حادًا بين الماضي المجيد والحاضر المؤلم، وهذا التباين هو المحرك الأساسي للصراع الدرامي، إذ يتجسد الصراع في حواره مع نفسه، حيث يرفض فكرة التقاعد ويصف نفسه بأنه فنان لا موظف، وأن الجمهور يمثل له الأكسجين الذي يتنفسه، كما استخدم المؤلف أسلوب “الإسترجاع” (flashback) بشكل ضمني، حيث يستعيد البلياتشو ذكرياته عن إبداعاته، مثل إبتكاره لأقنعة متعددة وشخصيات مختلفة، وتطويره لنمرة مع الأسود والنمور، مما يثبت للجمهور أنه كان فنانًا مجددًا وليس مجرد مقلد، وهذا الإسترجاع لا يخدم فقط تأكيد قيمة البلياتشو الفنية، بل يعمق من إحساس الجمهور بالظلم الذي تعرض له بسبب قرار الإدارة بالإستغناء عنه.
وقد تكاملت الأقنعة التي يبتكرها البلياتشو مع البناء الدرامي لتشكل رمزية عميقة، فالبلياتشو لم يكن مجرد مهرج يضحك الناس، بل كان قادرًا على تقمص شخصيات متعددة مثل السفاح، والنصاب، والجاهل، والعبيط، مما يدل على عمق موهبته وتنوعها، وفي ذروة يأسه، يبتكر “قناع الموت” ليعلن من خلاله انتصاره على فكرة النهاية والعدم، مؤكدًا أن مهمته هي زرع السعادة حتى في وجه الموت نفسه.
تتجاوز المسرحية في رسالتها الأطفال لتصل إلى الكبار، فمن الناحية التربوية تعلم المسرحية الأطفال قيمة الفن والفنان، وتحثهم على احترام الأجيال السابقة وعدم تهميشها، كما أنها تقدم لهم نموذجًا للثبات على المبدأ والتمسك بالهوية، حيث يرفض البلياتشو أن يعيش على نفقة أبنائه المهاجرين، مؤكدًا أنه لا يمكن أن يتوقف عن ممارسة فنه.
اعتمد المؤلف على لغة بسيطة وعامية قريبة من الأطفال، لكنها محملة بدلالات عميقة، إذ أن الأقنعة والحركات التي يصفها البلياتشو تفتح آفاقًا واسعة لخيال الطفل، وتجعله يتفاعل مع الشخصية ومعاناتها، أما من الناحية التعليمية، فالمسرحية تعلم الأطفال أن الفن ليس مجرد ترفيه، بل هو رسالة وهدف، وأن التجديد والإبداع هما جوهر الاستمرارية.
تميز أسلوب المؤلف د. علي خليفة بالواقعية والبساطة، حيث يصور لنا شخصية البلياتشو بأبعادها الإنسانية الكاملة، إذ لا يتردد في عرض نقاط ضعفه، مثل شعوره بالعجز وبطء حركته، إلى جانب نقاط قوته وموهبته، كما استخدم أسلوب السرد المباشر الذي يسمح للبطل بالتعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية تامة، مما يخلق رابطًا عاطفيًا قويًا بينه وبين الجمهور، كما تخللت حوارات البلياتشو مفارقات درامية مؤثرة، مثل هجرة أبنائه الذين كانوا يخجلون من عمله كبلياتشو، ورفضهم لموهبته التي كانت مصدر رزقهم وتعليمهم، وهذه المفارقة تزيد من تعاطف الجمهور مع البطل، وتلقي الضوء على قضية أعمق تتعلق بقيم المجتمع التي قد تهمش الفن والفنان.
تصل المسرحية إلى ذروتها في نهاية مشرقة حيث يخرج البلياتشو من عزلته وسجنه النفسي بفضل أصوات الأطفال الذين ينادون عليه، إذ إنهم “جمهوره” الذي كان يبحث عنه ويصرخ من أجله، وهذا المشهد يمثل انتصارًا لفكرة أن الفن الحقيقي لا يموت، وأن قيمته لا تحددها إدارة سيرك أو شهادات أبناء، بل يحددها حب الجمهور ورغبته في رؤية الفن، إذ ينزل البلياتشو إلى الشارع ليقدم فنه في أي مكان، وهو ما يرمز إلى أن الفن ليس حكرًا على المسارح الكبيرة، بل هو قادر على أن يولد من جديد في أي مكان يجد فيه جمهورًا يقدره.
“بلياتشو ع المعاش” ليست مجرد مسرحية تتناول قصة مهرج عجوز، بل هي ترنيمة فلسفية عن الحياة والموت، عن الفن والجمهور، وعن القيمة الحقيقية للإنسان التي لا تذبل مع مرور الزمن.