الخميس , أكتوبر 16 2025

أراجوز وأراجوزتا .. حين يلتقي التراث بالتربية في الفضاءات المفتوحة

بقلم : د. محمد جمال الدين

لم يكن مسرح الطفل في يوما من الأيام مجرد فعل ترفيهي يُمارس على الخشبة أو خارجها، بل هو حوار فلسفي وجمالي مع الإنسان والمجتمع، يعكس من خلاله المبدع رؤيته للوجود، ويختبر قدرة الفنون على صياغة وعي جمعي جديد، فإذا كان المسرح قد وُلد في أحضان الساحات العامة والميادين الشعبية، ثم انتقل إلى قوالب مغلقة في قاعات العلبة الإيطالية، فإنه في عروض مثل «أراجوز وأراجوزتا» يعود ليستعيد جذوره الأولى، ويجدد علاقته بالفضاء المفتوح والناس، وهو العرض الذي أنتجه المركز القومي لثقافة الطفل برئاسة الأستاذ أحمد عبد العليم، والمشارك في فاعليات مهرجان القاهرة الأول للعرائس، والذي قدم بالحديقة الثقافية للأطفال تحت إشراف الباحثة الأستاذة ولاء محمد محمود.

 

يجسد هذا العرض الوعي العميق بأهمية استعادة الفضاء الشعبي، وبناء جسر بين التراث الشعبي والطفل المعاصر، في محاولة لإحياء القيم الأخلاقية عبر لغة الدمى والأغنية والخيال.

 

كتب الكاتب المخضرم سعيد حجاج نصاً ينهض على الفكرة التربوية الأساسية، وهي الإصغاء للآخرين، وتجنب الثرثرة التي تعوق الفهم والتواصل، غير أن النص لم يتوقف عند المباشرة التعليمية، بل حاك حبكة أسطورية تتشابك فيها العرائس مع شخصيات تراثية كعلاء الدين والسندباد سندريلا، وهذا المزج بين الشعبي والخيالي منح النص بعداً فلسفياً يتجاوز البعد الوعظي، ليطرح أسئلة حول الشر والخير، والحقيقة والوهم، والإختيار الفردي في مواجهة الظلم، وذلك بلغة بسيطة وأنيقة خالية من التعقيد تعكس وعياً بأفق المتلقي الطفل، إذ يربط الكاتب بين جمالية التعبير ووضوح الرسالة، ليحقق توازناً بين الهدف التربوي والفني .

 

اعتمد المخرج ناصر عبد التواب على الفضاء المفتوح للحديقة الثقافية بالسيدة زينب، مقدماً عرضاً يتماهى مع طبيعة المكان، ويعيد الإعتبار لفكرة المسرح الشعبي، ولأن الإخراج في الهواء الطلق يواجه تحديات تقنية (الإضاءة، خيال الظل)، فقد استبدل المخرج بعض الإرشادات بوسائل بديلة مثل استخدام عرائس كبيرة الحجم، على سبيل المثال لا الحصر، وهذا التعديل لم يكن مجرد ضرورة إنتاجية، بل شكل خياراً جمالياً يعكس فلسفة الخلق المسرحي بوصفه فناً قابلاً للتطور والتغيير بحسب المكان والظرف، وعليه فقد جسد العرض فكرة أن المسرح ليس قوالب جامدة، بل تجربة حية تعيد صياغة نفسها في كل مرة.

 

وفق شادي قطامش في تصميم ديكوراً بسيطاً وفعالاً، يتألف من برفان بألوان زاهية وزخارف تراثية، ليخلق فضاءً بصرياً مبهجاً يخاطب الطفل مباشرة، وهذا التشكيل البصري لم يكن زينة خارجية، بل جزءاً عضوياً من الخطاب الدرامي، إذ جعل العرض أقرب إلى الإحتفال الشعبي، بعيداً عن الرسمية المسرحية، إذ إن رمزية الألوان الزاهية، والورود المرسومة، والأبعاد الصغيرة للمساحة، كلها تشير إلى فلسفة القرب من الطفل، وتحرير الخيال من ثقل العمارة المسرحية.

 

صمم مؤمن ونس عرائس متنوعة مستوحاة من التراث الشعبي، بحيث تتنوع في ملامحها وأزيائها لتكون مرآة لتعددية الحياة، وعليه فإن العرائس هنا ليست مجرد أدوات لعب، بل وسائط رمزية تعكس المخزون الثقافي للمجتمع، وتُدخل الطفل في حوار مع ذاكرة أجداده، وبهذا المعنى تتحول العرائس إلى «نص بصري» يوازي النص اللغوي، إذ يتعلم الطفل كيف يقرأ العلامة البصرية، ويؤسس خياله على صور شعبية أصيلة.

 

جاءت موسيقى وألحان إيهاب حمدي لتضيف بعداً إدراكياً وإيحائياً، حيث ارتبطت باللحظات الدرامية الحرجة مثل كشف مؤامرة الأشرار أو مشاهد الترقب، فالموسيقى والألحان في هذا العرض لم تكن خلفية محايدة، بل قوة درامية تثير العاطفة وتشد الانتباه، لتؤكد أن المسرح هو لقاء بين الحواس والعقل، وعليه يمكن القول إن الموسيقى أسهمت في رفع إيقاع العرض، وربطت الطفل إيقاعياً بالحدث، وهو ما ينسجم مع طبيعة المسرح الغنائي الشعبي.

 

على المستوى الفلسفي، العرض يضع الطفل أمام إشكالية الإصغاء والفعل، وهي هل نكتفي بالكلام والثرثرة، أم نصغي ونفكر ونتخذ القرار؟، إذ إن رحلة أراجوز وأراجوزتا ليست مجرد مغامرة خيالية، بل هي تمثيل رمزي لمسار التربية ذاته، والإنتقال من العفوية الطفولية إلى الوعي النقدي، كما أن إشراك الأطفال في الحوار التفاعلي داخل العرض يكسر الحاجز بين المرسل والمتلقي، ليجعل من الطفل مشاركاً فاعلاً في إنتاج المعنى، وهنا تكمن قوة المسرح كأداة تربوية وفلسفية في آن.

 

إن عرض «أراجوز وأراجوزتا» يمثل تجربة متكاملة تزاوج بين البعد الشعبي والرؤية التربوية، بين البساطة الفنية والعمق الفلسفي، ولقد نجح النص في تقديم قيم تربوية بلغة فنية راقية، ونجح الإخراج في إعادة المسرح إلى الفضاء المفتوح حيث يولد الفن من قلب الناس، فيما تكاملت العناصر البصرية والموسيقية لتمنح الطفل تجربة جمالية متكاملة، ومن هنا يمكن القول إن العرض لم يكن مجرد نشاط ثقافي للأطفال، بل هو إعلان فلسفي عن ضرورة إعادة المسرح إلى جذوره الشعبية، وربطه بالخيال التربوي والفكري للطفل، وبهذا المعنى يصبح «أراجوز وأراجوزتا» نموذجاً لمسرح الطفل الذي لا يكتفي بالتسلية، بل يبني وعياً ويغرس قيماً، ليشكل حلقة وصل بين التراث والحداثة، بين الماضي والمستقبل، وبين اللعب والفكر .

شاهد أيضاً

رانيا يحيى تخاطب الأطفال الإيطاليين بقصة مصر بلدي

كتب : محمد جمال الدين ‏أصدرت الدكتورة رانيا يحيى مدير الأكاديمية المصرية لفنون بروما كتابا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *