بقلم : د. محمد جمال الدين
يعتبر المخرج ناصر عبد التواب قامة فنية راسخة في المشهد المسرحي العربي خاصة في مصر، حيث ترك بصمته الواضحة على مدار مسيرة مهنية حافلة بالابتكار والفرد، فلم يقتصر تأثيره على جيل واحد من المسرحيين والجمهور، بل امتد ليلامس أجيالًا متعددة، وذلك بفضل رؤيته الفنية العميقة وفلسفته المتجذرة في تراثنا الشعبي، وعلى رأسها فن الأراجوز.
إن الحديث عن مسيرة ناصر عبد التواب هو حديث عن إلتزام فني لا يتزعزع، وعن سعي دائم لتقديم مسرح هادف ومؤثر، يجمع بين المتعة والفكر، ويعكس هموم الإنسان وقضاياه.
لا يمكن فصل مسيرة ناصر عبد التواب عن تعامله الفريد والمتميز مع فن الأراجوز، فلم يكن الأراجوز بالنسبة له مجرد دمية شعبية للتسلية، بل كان وسيلة تعبير فنية عميقة، ورمزًا للفطرة الشعبية والقدرة على التعبير عن الواقع بأسلوب ساخر وناقد، إذ أدرك عبد التواب الإمكانات الكامنة في هذه الشخصية التراثية، وقرر أن ينقلها من الفضاءات التقليدية إلى خشبة المسرح الحديث، مانحًا إياها حياة جديدة وأبعادًا فلسفية عميقة.
لقد رأى عبد التواب في الأراجوز انعكاسًا لصوت المهمش والبسيط، وللمواطن الذي يملك رؤية نقدية ثاقبة وإن كانت تبدو ساذجة أحيانًا، فمن خلال الأراجوز، استطاع أن يعالج قضايا اجتماعية وسياسية شائكة بأسلوب فني مبدع، يجمع بين الكوميديا السوداء والبعد الفلسفي، إذ لم يكن هدف عبد التواب محاكاة الأراجوز التقليدي، بل كان يسعى إلى إعادة صياغته وتطويره ليصبح أداة تعبير معاصرة، قادرة على التفاعل مع قضايا العصر، فلقد وظف عبد التواب الأراجوز في أعماله ليصبح مرآة للمجتمع، يكشف عيوبه ويسلط الضوء على تناقضاته، محرضًا الجمهور على التفكير والنقد.
يتميز أسلوب ناصر عبد التواب الإخراجي بكونه مزيجًا فريدًا من الأصالة والمعاصرة، فهو يستلهم من التراث الشعبي ويستقي من جذور الثقافة المصرية والعربية، ولكنه لا يقف عند حدود التقليد، بل يذهب أبعد من ذلك ليقدم رؤية فنية متطورة ومبتكرة، لذا تمتع أسلوبه بالعمق الفلسفي والاجتماعي، إذ لم يكن عبد التواب يقدم مسرحًا للتسلية المجردة، بل كان يسعى دائمًا إلى إيصال رسائل عميقة وذات مغزى، وكانت أعماله تتناول قضايا إنسانية واجتماعية وفلسفية جوهرية، تدفع الجمهور إلى التأمل والتفكير.
برع عبد التواب في استخدام الرمز والمجاز في أعماله، مما يضفي عليها طبقات متعددة من المعنى، وهذه الرمزية لم تكن معقدة أو غامضة، بل كانت واضحة بما يكفي لإيصال الفكرة، ولكنها عميقة بما يكفي لتثير التفكير، كما تميزت أعمال عبد التواب بقدرتها على المزج بين الضحك والبكاء، بين الفكاهة والمرارة، وهذه الثنائية كانت تعكس واقع الحياة بكل تناقضاتها، وتجعل الجمهور يتعايش مع الشخصيات والأحداث على مستويات متعددة.
يولي عبد التواب اهتمامًا خاصًا للممثل، ويعمل على استخراج أقصى طاقاته الإبداعية، كما يؤمن بأن الممثل هو القلب النابض للعرض المسرحي، وبالتالي ركز على تفاصيل الأداء، وحرص على أن يكون الممثل متقمصًا للشخصية، متفاعلًا معها ومع الجمهور، إذ لم يكن عبد التواب يعتمد على الإبهار التقني المبالغ فيه، بل كان يفضل البساطة في الديكور والإضاءة والمؤثرات، إذ يرى أن قوة العرض تكمن في الفكرة والمضمون، وفي أداء الممثل، وليس في الزخارف الخارجية.
لم تقتصر إبداعات ناصر عبد التواب على مسرح الكبار، بل امتدت لتشمل مسرح الطفل، حيث قدم تجارب رائدة ومؤثرة، إذ أدرك عبد التواب أهمية مسرح الطفل كأداة قوية لبناء الوعي وغرس القيم الإيجابية في الأجيال الناشئة، لذا لم يتعامل مع مسرح الطفل باستهانة أو تبسيط مخل، بل منحه نفس الاهتمام والجدية التي يمنحها لمسرح الكبار، وعليه تمثلت فلسفته في مسرح الطفل في تقديم عروض مسرحية ممتعة وجذابة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل رسائل تعليمية وتربوية عميقة، إذ ابتعد عن المباشرة والتلقين، وفضل تقديم الأفكار والقيم من خلال الحكاية الشيقة والشخصيات المحببة، إذ كان يدرك أن الطفل ليس مجرد متلقٍ سلبي، بل هو كائن قادر على التفاعل والتفكير والاستكشاف.
لقد حرص عبد التواب في أعماله الموجهة للأطفال على تنمية الخيال والإبداع، من خلال القصص الخيالية والشخصيات المبتكرة، إذ سعي إلى تحفيز خيال الأطفال وتشجيعهم على التفكير خارج الصندوق، كما أعماله تتناول أعماله قيمًا مثل الصدق، الأمانة، التعاون، حب الوطن، واحترام الآخر، ولكن بطريقة غير مباشرة وممتعة.
لم يتجنب عبد التواب معالجة بعض المشكلات التي قد يواجهها الأطفال، مثل الخوف، الغيرة، أو صعوبات التعلم، ولكنه كان يقدم حلولًا إيجابية ومشجعة، كما ربط الطفل بتراثه، من خلال استلهام الحكايات الشعبية والأساطير العربية في بعض أعماله الموجهة للأطفال، لتعريفهم بتراثهم وثقافتهم بطريقة محببة.
وعليه يظل ناصر عبد التواب مخرجًا استثنائيًا في تاريخ المسرح العربي والمصري، بمشواره الفني الملتزم ورؤيته العميقة، فهو فنانًا أصيلًا، لم يخشَ التجريب والتجديد، ولم يتخلَّ عن جذوره الثقافية، بل إن تأثيره لا يزال حاضرًا في أجيال من المسرحيين والجمهور، وسيبقى الأراجوز الذي أعطاه عبد التواب روحًا جديدة شاهدًا على عبقريته وتميزه.