الثلاثاء , يوليو 8 2025

فاطمة المعدول أيقونة مسرح الطفل

بقلم : د. محمد جمال الدين

تُعد فاطمة المعدول واحدة من أبرز الأسماء في تاريخ مسرح الطفل العربي ومصر تحديدًا، حيث لم تكتفِ بكونها كاتبة ومخرجة، بل رسخت اسمها كفيلسوفة حقيقية للمسرح الموجه للصغار، إذ قدمت المعدول نموذجًا فريدًا يمزج بين العمق الفكري والبساطة الجمالية، متجاوزة الرؤى التقليدية التي غالبًا ما تحصر مسرح الطفل في مجرد الترفيه أو التلقين المباشر، وهو ما جعلها واحدة من أبرز وأهم رائدات مسرح الأطفال في مصر والعالم العربي، حيث كرست حياتها لإثراء هذا المجال الحيوي وإرساء قواعده.

 

تخرجت المعدول من المعهد العالي للفنون المسرحية عام 1970، وبدأت مسيرتها المهنية عام 1972 في قصر ثقافة الطفل بالثقافة الجماهيرية، حيث كانت هذه بداية رحلة حافلة بالعطاء، إيمانًا منها بأهمية التخصص وتطوير الذات، وقد سافرت عام 1977 في بعثة إلى المجر لدراسة مسرح الطفل، وهو ما عاد بالنفع على رؤيتها المستقبلية لثقافة الطفل في مصر، وبعد عودتها تولت مناصب قيادية رفيعة، فكانت مديرًا لقصر ثقافة الطفل عام 1978، ثم مديرًا لإدارة ثقافة الطفل بالثقافة الجماهيرية عام 1980، وصولًا إلى منصب مدير عام المسرح القومي للأطفال عام 1983.

 

تعد فاطمة المعدول رائدة بمعنى الكلمة، إذ كانت أول امرأة تتولى منصب مدير عام ثقافة الطفل عام 1996، ثم رئيس المركز القومي لثقافة الطفل عام 1998، لكن مساهماتها لم تتوقف عند الإدارة، بل امتدت لتشمل الإبداع والتأليف والإخراج، فلقد أثرت المكتبة العربية بأكثر من 50 كتابًا أدبيًا للأطفال بمختلف الأعمار، كما كتبت وأخرجت العديد من المسرحيات الموجهة لهم، بالإضافة إلى إخراجها لأعمال سينمائية قصيرة متنوعة، كما لم يقتصر اهتمامها على الإنتاج الفني المباشر، بل أولت اهتمامًا بالغًا بتنمية الكوادر البشرية العاملة في مجال أدب وثقافة الطفل، وأقامت وأشرفت على ورش عمل ودورات تدريبية متخصصة في فنون الحكي، وإدارة مكتبات الأطفال، ومسرح الطفل بأنواعه المختلفة (عرائس وبشري).

 

ولعل أبرز ما يميز مسيرتها هو جهدها الدؤوب في دعم الأطفال ذوي الإعاقة، حيث قدمت أول مسرح مخصص لهم في مصر، وأقامت ورش مسرحية جمعت بين الأطفال المعاقين والأسوياء على حد سواء، إيمانًا منها بقدراتهم الكامنة وحقهم في التعبير الفني.

 

تزوجت فاطمة المعدول من الكاتب الكبير لينين الرملي، وأنجبا ابنًا واحدًا، هو المخرج شادي الرملي، الذي يسير على خطى والديه في عالم الفن والإبداع.

 

حصدت الكاتبة فاطمة المعدول مجموعة كبيرة من الجوائز المرموقة، التي تعكس قيمة وأهمية أعمالها. من بين هذه الجوائز، جائزة أدب كتب الأطفال من جائزة كامل كيلاني التابعة للمجلس الأعلى للثقافة، وجائزة الثقافة الجماهيرية عن مسرحية “آخر العنقود”، كما نالت جائزة اليونسكو للتسامح عام 1999 عن كتاب “خطوط ودوائر”، وتم إدراجها ضمن لائحة الشرف في المجلس العالمي لكتب الأطفال (IBBY) عام 2006 عن كتابيها “السلطان نبهان يطلب إحسان” و”السلطان نبهان يختفي من سندستان”، إضافة إلى ذلك، حصدت جائزة مهرجان الشارقة القرائي للأطفال عن كتاب “عيون بسمة”، والجائزة الدولية في مهرجان القاهرة السينمائي للطفل عن فيلم “عصفور يجد عشه”، وشهادة تقدير عن فيلم “أولاد القمر” من المهرجان ذاته.

 

تتمحور فلسفة فاطمة المعدول تجاه الطفل حول مبدأ أساسي، وهو التعامل مع الطفل ككيان ذكي، قادر على الفهم، والاستيعاب، والتفكير النقدي، والتفاعل الإيجابي مع القضايا الإنسانية والاجتماعية، إذ رفضت المعدول بشدة النظرة الدونية للطفل، تلك النظرة التي ترى فيه مجرد متلقٍ سلبي، يمكن ملء عقله بالمعلومات الجاهزة أو التوجيهات المباشرة، بل آمنت بأن المسرح يمكن أن يكون مساحة للطفل لـيكتشف ذاته، ويتعلم قيمًا أصيلة، ويتفهم العالم من حوله بطريقة تفاعلية وممتعة.

 

ترى المعدول أن مسرح الطفل ليس مكانًا للشعارات الرنانة أو الوعظ المباشر، بل هو فضاء للحوار البصري والسمعي والحركي، لذا فقد سعت دائمًا إلى إثارة الأسئلة بدلًا من تقديم الإجابات الجاهزة، وتشجيع الأطفال على التفكير النقدي والتساؤل والتعبير عن آرائهم، وهذه الفلسفة جعلت أعمالها تتسم بالثراء والتنوع، فكل مسرحية كانت رحلة استكشافية للطفل، يتعرف من خلالها على مفاهيم معقدة مثل الصداقة، العدل، الاختلاف، الحب، والخسارة، ولكن بأسلوب مبسط وعميق في آن واحد.

 

في الكتابة المسرحية تميزت فاطمة المعدول بأسلوب يجمع بين البساطة اللغوية والعمق الدلالي، إذ جاءت لغتها سهلة وميسرة، تناسب مدارك الأطفال بمختلف أعمارهم، لكنها لم تكن ساذجة أو سطحية، بل كانت تحمل في طياتها إيحاءات ومعاني متعددة، تسمح للطفل بالتفاعل معها على مستويات مختلفة، كما استخدمت المعدول اللغة الشعرية والرمزية ببراعة، مما أضفى على نصوصها جمالًا خاصًا وجعلها تتجاوز مجرد الحوارات العادية، كما اتسمت كتاباتها بـالخيال الجامح والقدرة على خلق عوالم مسرحية فريدة مبتكرة، فلم تخشَ المعدول من تناول موضوعات حساسة أو معقدة، لكنها كانت تفعل ذلك من خلال الشخصيات الخيالية، والحيوانات المتكلمة، والأحداث الفانتازية التي تجعل الرسالة تصل إلى الطفل بسلاسة ومتعة، وكانت الاعمال التي تقدمها المعدول غالبًا ما تحمل أبعادًا إنسانية واجتماعية عميقة، تدعو إلى التسامح، التعاون، تقبل الآخر، ومواجهة الصعاب بشجاعة.

 

لم يقل أسلوب فاطمة المعدول في الإخراج المسرحي أهمية عن كتاباتها، بل كان يمثل تجسيدًا حيًا لفلسفتها، إذ ركزت المعدول على الجانب البصري والجمالي للعرض المسرحي، مؤمنة بأن الصورة والحركة والألوان هي لغة الطفل الأولى، وكانت تصميمات الديكور والأزياء بسيطة لكنها معبرة وذات دلالة، وتعتمد على الألوان الزاهية التي تجذب انتباه الأطفال وتثير خيالهم، كما أولت اهتمامًا كبيرًا بـالموسيقى والأغاني والاستعراضات الراقصة، فكانت تستخدمها ليس فقط كعنصر ترفيهي، بل كجزء لا يتجزأ من البناء الدرامي، يساعد على إيصال المعاني وتجسيد المشاعر، كما حرصت المعدول على إشراك الأطفال في العرض بطرق مختلفة، سواء من خلال التفاعل المباشر مع الممثلين، أو من خلال تشجيعهم على الغناء والتصفيق، أو حتى من خلال طرح الأسئلة عليهم خلال العرض.

 

في إخراجها ابتعدت المعدول عن التلقين المباشر، واعتمدت على الفرجة الممتعة والمثيرة التي تحفز حواس الطفل وتفكيره، وكانت تولي اهتمامًا خاصًا بـأداء الممثلين، وتوجيههم لتقديم شخصيات مقنعة ومحبوبة للأطفال، مع التركيز على لغة الجسد وتعبيرات الوجه التي يفهمها الطفل بسهولة.

 

لقد تركت فاطمة المعدول بصمة لا تُمحى في مسرح الطفل العربي والمصري، من خلال فلسفتها القائمة على احترام عقل الطفل، وأسلوبها الذي يجمع بين الخيال والواقع، والجمال والبساطة، وهو ما جعل أعمالها خالدة ومؤثرة، وعليه فاطمة المعدول تتجاوز كونها مجرد كاتبة ومخرجة، بل تعتبر بمثابة مُعلمة تربوية وفنانة مبدعة، آمنت بقوة المسرح في بناء جيل واعٍ ومثقف، قادر على الإبداع والتغيير، لذا فلا زالت أعمالها تشكل مصدر إلهام لكل من يعمل في مجال مسرح الطفل، في تأكيد على أن هذا الفن يمكن أن يكون أداة قوية للتنوير والتنمية، لذا ستظل فاطمة المعدول نموذجًا يحتذى به في التفاني والإبداع في مجال ثقافة الطفل، وستبقى أعمالها وإسهاماتها مصدر إلهام للأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *