الأربعاء , أغسطس 13 2025

الأصالة والحداثة عند عبده الزراع في مسرحية الفنان

بقلم : د. محمد جمال الدين

يأخذنا الكاتب عبده الزراع في مسرحيته “الفنان” في رحلة فنية عميقة تتجاوز مجرد سرد قصة بسيطة لتصل إلى تحليل فلسفي للعلاقة بين الأصالة والحداثة، والإبداع اليدوي والتكنولوجيا.

 

تبدو المسرحية منذ الوهلة الأولى عملًا موجهًا للأطفال، إلا أنها تخفي في طياتها معاني أعمق وتساؤلات وجودية حول ماهية الفن وقيمته في عالم متغير.

 

تعتمد المسرحية على بناء درامي محكم يتألف من سبعة مشاهد رئيسية، تتصاعد فيها الأحداث بشكل تدريجي ومثير، إذ يبدأ المشهد الأول بتقديم الشخصية الرئيسة عمر، المفتون بجهاز الكمبيوتر وألوانه المبهرة، مما يثير قلق والدته التي تلاحظ إهماله للألوان التقليدية، وهذا الصراع الأول بين عمر ووالدته يمثل النواة التي تتطور منها أحداث المسرحية.

 

تظهر في المشهد الثاني الألوان التقليدية كشخصيات فاعلة، تعبر عن مشاعرها وغضبها من إهمال عمر لها، وهنا يبرز الكاتب براعته في تجسيد الجمادات ومنحها أصواتًا وشخصيات، مما يضفي على العمل طابعًا كوميديًا وتأمليًا في آن واحد، إذ أن التمرد الذي تقوده الألوان على عمر هو ذروة الصراع في هذا الجزء من المسرحية، حيث تقرر الألوان التوقف عن العمل ورفض الذهاب معه إلى المدرسة، وهذا التمرد ليس مجرد حدث عابر، بل هو إنعكاس لقلق أعمق حول قيمة الفن التقليدي في مواجهة التطور التكنولوجي.

 

فى المشهد الرابع تأتي أجهزة الكمبيوتر ممثلة في “الشاشة” و”الماوس” و”الكي بورد”، لتلعب دورًا اسمًا، إذ إنها لا تقدم نفسها كأعداء، بل كأصدقاء وشركاء في رحلة الإبداع، وهنا يطرح الكاتب فكرة التعايش والتكامل بين القديم والجديد، مؤكدًا أن لكل منهما دوره وقيمته، إذ تشير “الشاشة” إلى أن الألوان لها استخدامات أخرى مهمة لا تقتصر على الرسم في حصة المدرسة، مثل استخدامها في الهندسة المعمارية ورسم الخرائط، وأن اللوحات الفنية العالمية الشهيرة مثل “الموناليزا” رسمت بألوان طبيعية.

 

تتصاعد الأحداث في المسرحية وصولاً إلى المشهد الخامس حيث يواجه عمر عواقب إهماله للألوان، ويتعرض للتوبيخ من قبل أستاذه في حصة الرسم، وهذا الحدث يعمق من الصراع الداخلي لدى عمر ويجعله يفكر في قيمة الألوان التقليدية من جديد، وفي المشهد السادس تبادر أجهزة الكمبيوتر إلى حل المشكلة، وتتحدث مع عمر، مقنعة إياه بضرورة التصالح مع الألوان.

 

ذروة المسرحية تصل في المشهد السابع حيث يتصالح عمر والألوان، ويتعهد كل منهما للآخر بالحب والاحترام، وهذا التصالح ليس مجرد حل للصراع، بل هو تأكيد على أن الفن الحقيقي يتطلب توازنًا بين كل الأدوات المتاحة، القديمة منها والجديدة، وينتهي المشهد الأخير باحتفال في المدرسة، حيث يُكرم عمر بلقب “الفنان”، وتُكرم الألوان معه، وهذا التكريم المشترك هو رسالة واضحة من الكاتب أن النجاح الحقيقي يأتي من التقدير المتبادل والتعاون بين الأصالة والمعاصرة.

 

تميز أسلوب الكاتب عبده الزراع بأسلوبه الأدبي السلس والحيوي الذي يناسب جمهور الأطفال، إذ استخدم الكاتب عدة أساليب فنية لتعميق رسالته، منها التجسيد إذ منح الكاتب الألوان وأجهزة الكمبيوتر شخصيات حية، تتحدث وتفكر وتتمرد، وهذا الأسلوب يسهل على الأطفال فهم المفاهيم المجردة ويجعلهم يتعاطفون مع الشخصيات، علاوة على الأشعار والأغاني، إذ استخدم الكاتب الأشعار والأغاني الجماعية للتعبير عن المشاعر وتلخيص الأحداث، وهذا يضيف للمسرحية بُعدًا جماليًا وموسيقيًا يجعلها أكثر جاذبية ومتعة، مع عدم إغفال الحوار البسيط والعمق، فعلى الرغم من أن الحوارات بسيطة ومباشرة، إلا أنها تحمل في طياتها معاني عميقة وفلسفية حول قيمة الفن والحياة، كما أن الحوار بين الألوان وأجهزة الكمبيوتر يعكس صراعًا فكريًا حول الأصالة والحداثة، مما يفتح آفاقًا للتفكير لدى الجمهور، كما تظهر بين ثنايا المسرحية الرمزية، إذ أن الألوان لا تمثل مجرد أدوات، بل ترمز إلى الأصالة والتراث والإبداع اليدوي، أما أجهزة الكمبيوتر فترمز إلى الحداثة والتكنولوجيا، والصراع بينهما هو صراع رمزي بين القديم والجديد، والتصالح بينهما هو دعوة للتكامل.

 

تهدف المسرحية إلى تحقيق عدة أهداف تربوية وتعليمية وجمالية، منها تقدير الأصالة والتراث، فالمسرحية تؤكد على قيمة الألوان التقليدية والأدوات اليدوية في عملية الإبداع، وهي تشجع الأطفال على عدم إهمال الأدوات القديمة في سبيل الأدوات الحديثة، علاوة على التكامل بين التكنولوجيا والفن، إذ أن المسرحية لا تدعو إلى رفض التكنولوجيا، بل إلى استخدامها بشكل إيجابي ومتكامل مع الأدوات التقليدية، فرسالة المسرحية هي أن الكمبيوتر ليس عدوًا للألوان، بل هو شريك في الإبداع، كما يظهر بين ثنايا المسرحية أهمية التعاون والتسامح، إذ أن الصراع بين الألوان وعمر ينتهي بالتصالح والتسامح، مما يعلم الأطفال أهمية حل الخلافات بالحوار والتفاهم، فالمسرحية تدعو إلى روح الفريق والتعاون لتحقيق النجاح، كما تؤكد المسرحية على قيم تعزيز الثقة بالنفس والإبداع، فالمسرحية تحفز الأطفال على الإبداع وتنمية مواهبهم، وتظهر لهم أن العمل الجاد والإتقان يؤديان إلى النجاح والتقدير، كما حدث مع عمر عندما حصل على لقب “الفنان”.

 

تتركنا مسرحية “الفنان” مع تساؤل فلسفي عميق، وهو هل التكنولوجيا عدو للفن أم شريك له؟، ويجيب الكاتب عن هذا السؤال بوضوح من خلال رحلة عمر والألوان وأجهزة الكمبيوتر، إذ أن الفن ليس محصورًا في أداة واحدة، بل هو تعبير عن روح الإنسان، والتكنولوجيا مثل الألوان، هي مجرد وسيلة لخدمة هذا التعبير، والتناقض الحقيقي ليس بين التكنولوجيا والفن، بل في الطريقة التي نستخدم بها هذه الأدوات، لذا فإن هذه المسرحية تدعو إلى التوازن والتكامل، والتقدير المتبادل، مؤكدة أن الفن الحقيقي يكمن في قلب المبدع، وأن الأدوات مهما تنوعت، تظل خادمة لهذا القلب، إنها رسالة خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتؤكد أن الإبداع لا يتقادم، بل يتجدد ويتطور.

شاهد أيضاً

“القلم المغرور” .. رحلة في عالم أدوات عبده الزراع الهندسية

بقلم : د. محمد جمال الدين في عالم الطفولة حيث تتشكل المفاهيم الأولى للحياة، وتترسخ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *