السبت , يوليو 12 2025

سحر المسرح يلامس قلوب الصغار فى مملكة الحواديت

بقلم : د. محمد جمال الدين

يُعد مسرح الطفل واجهة حضارية ومصدر من مصادر المعرفة والثقافة، التي تقوم عليها المجتمعات الساعية للإرتقاء, لما يتمتع به من خصائص استطاع من خلالها أن يكون الموجه التربوي، على مستوى المراحل العمرية المختلفة لجمهوره، ولكونه كذلك فقد أصبح مسرح الطفل يقوم على نظريات علمية، يضمن تطبيقها تحقيق أهداف وغايات بشكل يساعد على تحقيق نتائج فاعلة .

 

ويُهدف مسرح الطفل كأحد أهم وسائل التربية الحديثة إلى مساعدة الأطفال على النمو السليم جسميًا وعقليًا وإجتماعيًا وعاطفيًا وروحيًا، حتى يصبحوًا مواطنين صالحين، إذ أن مسرح الطفل يساعد عند ممارسته أو مشاهدته فى التعبير عن الذات وإشباع حاجات الطفل الأساسية، بجانب تنمية روح الإنتماء والمواطنة الصالحة، وعليه يعد مسرح الطفل أحد أهم الوسائط التربوية، لما يحققه من دعم واضح للقيم التربوية، التي تقدم النموذج الإيجابي للطفل، فضلًا عن الجانب الترفيهي الهادف، إضافة إلى قيم وثقافة وأعراف المجتمع الذى يعيشها.

 

وعليه فإن مسرح الطفل ركيزة أساسية في بناء وتنشئة الأجيال الصاعدة، فهو ليس مجرد وسيلة للترفيه والتسلية، بل هو فضاء حيوي يتفاعل فيه الصغار والكبار، من خلال عوالم متنوعة من القصص المثيرة والمشوقة، إنه منصة واسعة لغرس بذور الإبداع وتعزيز القيم الإنسانية النبيلة في نفوس الأطفال، فضلاً عن تقديم شخصيات مختلفة وأفكار إيجابية، وفي هذا السياق تبرز المسرحيات الإستعراضية الغنائية للأطفال كواحدة من أروع التجارب الفنية التي يمكن أن يخوضها الصغار، سواء كانوا مشاهدين أو مشاركين في العرض.

 

تُعد مسرحية مملكة الحواديت لفرقة المسرح القومي للأطفال، والتي تُعرض على مسرح عبد المنعم مدبولي بالعتبة، مثال ساطع على قوة مسرح الطفل في نقل الصغار إلى عالم الخيال والإبداع، إذ تتميز هذه المسرحية بدمج عناصر متعددة تجذب انتباه الطفل من خلال أحداث بسيطة لكنها عميقة ومشوقة، تحمل في طياتها رسائل تربوية هادفة .

 

تدور أحداث العرض في إطار خيالي ومزيج بين الكوميديا، حيث تتعرض مملكة الحواديت لخطر الفناء، ويعود هذا الخطر إلى تمرد الجوكر خادم الشر بداخل المملكة، الذي يسعى للسيطرة على عرش الحواديت، إذ يستغل الجوكر الطاقة السلبية لطفل غاضب بسبب تعرضه للتنمر، ليسيطر على خياله بهدف تدمير الحواديت الطيبة من العالم، ومحاولة إلقاء أبطالها في بئر النسيان واستبدالها بحواديت الشر.

 

تلعب مسرحية مملكة الحواديت دورًا ملموسًا في تنمية جوانب عديدة في شخصية الطفل، فمن خلال المشاهدة يتفاعل الطفل مع الأحداث، ويتعاطف مع الشخصيات التي تعبر عن مشاعرها من خلال الحوار والأغاني والحركات، إذ يمكن للأطفال أن يتعلموا كيفية فهم المشاعر المختلفة والتعاطف مع الآخرين، كما أن متابعتهم لتسلسل الأحداث وحل المشكلات التي تواجه الشخصيات، يساهم في تطوير مهاراتهم في التفكير النقدي وتحليل المواقف.

 

يُعد أداء النجمة مها أحمد في مملكة الحواديت نقطة مضيئة في العرض، حيث تجسد الملكة شهرزاد وتلعب أربع شخصيات مختلفة، في محاولة منها لإنقاذ مملكة الحواديت، وهذا التنوع في الأداء سمح لها بخوض مجموعة من المغامرات الخطيرة ضد الجوكر الشرير، إضافة إلى مرونتها في تجسيد هذه الشخصيات المتعددة، وهو ما أبرز احترافيتها وتفانيها في جعل العرض تجربة ممتعة ومفيدة للصغار، وقد شهد المسرح تفاعلاً كبيرًا من الأطفال مع الفنانة مها أحمد، في عودة قوية لها إلى المسرح بعد غياب سنوات، إذ نجحت فى التواصل مع الجمهور بشكل مباشر، وتسألهم التفكير في حلول لمساعدة الخير للانتصار على الشر كما في بداية المسرحية، وفي نهايتها تطلب منهم أن يستعدوا لمحاربة الشر لأنهم أبطال الحواديت القادمة، كما تحرص على إلتقاط الصور التذكارية مع الأطفال وذويهم في نهاية العرض، مما خلق تجربة شخصية لا تُنسى، كما لعب الفنان وائل عوني دور الجوكر الشرير بتميز، وكذلك استطاع خوض مغامرات كوميدية طريفة، أيضًا تألق الممثلون المشاركون في العرض، ومنهم وفاء عبد الله، إيهاب ناصر، ريم طارق، شهد حمدي، كنزي عزت، مهاب شريف، أحمد مهاب، يوسف هادي، والطفلان يوسف وليد وزينة مصطفى، بامتياز في تجسيد شخصيات الحواديت، حيث استطاعوا بأدائهم المتقن أن يعيدوا الحياة على خشبة المسرح، وكانت حركاتهم الإبداعية معبرة بدرجة كبيرة، وكان التفاعل جيدًا بين الممثلين والأطفال، مما زاد من حماسهم وتفاعلهم مع الأحداث .

 

على مستوى الأصوات التمثيلية والألحان والموسيقى والمؤثرات الصوتية، يتضح إدراك الملحن وائل عوض منذ اللحظة الأولى ووعيه بأهمية الموسيقى والأغانى فى عروض مسرح الطفل، فاستخدمها ووظفها توظيفًا سليمًا، ونجح فى الجمع بين الأدوات الموسيقى، من الصمت إلى نبرات اللغة المحكية، إلى الأصوات على أشكالها وأنواعها وإختلاف سلوكها، من الوشوشات والحشرجات إلى الصراخ والضجيج والشواش، ومن فوضى الأصوات الغير منغمة إلى هارمونية التواشجات اللحنية العذبة .

 

شكلت أيضا الألحان والموسيقى فى العرض، عنصرًا هاما في تنشيط الوعي الدلالي والإدراك الحسي، فهي لا تحيل الأشياء والعناصر إلى ذاتها، بل تفرقها عن ذاتها وتنزع عنها مرجعياتها المعنوية والدلالية، ناقلة كل ما يشاهد ويسمع إلى حيز الفعل الذهني المشارك والخلاق، فلم تكن الموسيقى فى العرض مجرد آداة تجميلية أو تأثيرية في عمل درامي، بعيد عن إنشغال الموسيقى والإبداع الفني والجمالي بذاته، بل كانت آداة تسقط بظلالها على التشكل المعنوي والدلالي .

 

كما شكلت الأصوات والنبرات وحركة الكلمة، عنصرًا موسيقيًا معنويًا وجماليًا خاصًا، فاختيار الأصوات (أصوات الممثلين) وخاصة الفنانة مها أحمد التى تنقلت بين الأداء الصوتى فى العديد من المواقف بمهارة ورشاقة فائقة، علاوة على أن الممثلين فى العرض يستخدمون نبرة ما، ولونًا صوتيًا معين، وأداءًا كلاميًا معين، طبقًا للحدث الدرامى، وقد ساهم ذلك كله في بناء الشخصيات، وأضفي عليها طابعًا صوتيًا هو في صلب الحس والتصميم الموسيقي لأبعاد الشخصية .

 

أما على المستوى التشكيلى للديكور فقد نجحت المهندسة هبه عبد الحميد فى تصميم العديد من المناظر المسرحية بحرفية شديدة، وهو ما أضفى على المنظر المسرحى ملمحًا طفوليًا مبهجًا على الغابة، كما اتسمت القيم الجمالية في ديكور العرض، باعتمادها المؤكد على المساحات الشاسعة من الإبهار فى الرؤية التشكيلية، والتى تتطلبه العروض المسرحية بالأطفال لتأكيد المعانى، وقد أكد الديكور المسرحى فى هذا العرض جماليته، من خلال عملية التصميم التي خلقت تصورات بصرية، إذ ساعدت قطع الديكور غير المعقدة، والبعيدة عن المبالغة في استثمار خشبة المسرح كلها، وتشكيل الإبهار التشكيلى دون تكلف، فاستطاع الديكور أن يفعل فعله في إيصال المعنى، وقد ساعد الديكور المسرحي في العرض على خلق المتعة الجمالية، إذ أضفى حرية الحركة التي دعمتها خشبة المسرح، فمصممة الديكور قدمت ثراءًا للحالة المسرحية، وأوجدت عنصرى الزمان والمكان، علاوة على الحقب التاريخية المجسدة على خشبة المسرح، وقد شكل الديكور فى العرض قيمًا تشكيلية بصرية متميزة، إذ يبدو الوعى التام من المصممة بنوعية ديكورات عروض مسرح الطفل، إذ أن كل قطعة من الديكور فى العرض، كانت فاعلة في الحدث المسرحي إن صح التعبير، كما كان هناك حالة تظافر مع الإضاءة والملابس منسجمة وداعمة للحدث الدرامي ما حقق في ذلك بعدًا فنيًا وجماليًا، مما ساعد المتلقي / المشاهد الصغير والكبير على فهم الخطاب البصري ومنحه تفاصيل أكثر دقة وجمالًا .

 

ساهمت الإضاءة من خلال زوايا التسليط والمساقط الضوئية في صياغة صورة العمل الفني للمسرحية، فجاءت مرة بشكل عمودي لتسلط على الممثلين، فيما جاءت مرة أخرى من الجوانب، من خلال المزج بين الضوء والظل الذي قصده المصمم، كما اشتركت الإضاءة الخلفية في إضفاء المتعة الجمالية للمتفرجين، وتقريب صورة الحدث معبرة عن المعنى ومشكلة للجانب الجمالي البصري التكويني، وقد تعددت مصادر الإضاءة وألوانها بحسب الحالة المراد تجسيدها، وعليه فقد كشفت الإضاءة فى العرض عن مكونات الصورة المسرحية، وخلقت الجو النفسي العام للمسرحية، الذي عبرت عنه الألوان والمساقط الضوئية المركزة والعامة، أيضًا لعبت الإضاءة فى العرض دورًا فى تكامل عناصر العمل، إذ اعتمدت على التوزيع الدقيق لأجهزة الإضاءة، لإضفاء الإحساس العميق بتناغم عناصر التكوين، بين شدة الضوء والظلال الناتجة لتحقيق المناخ التشكيلي للحدث الدرامي، إذ إن العرض يتطلب صياغة الصورة المرئية على خشبة المسرح بشكل جيد معتمد على الإبهار أهم ركائز عروض الأطفال، حيث تؤثر على العين وتثير انتباه المشاهد عند رؤيته لما هو قائم على خشبة المسرح .

 

جاءت الأزياء و(المكياج) و(الإكسسوارات) معتمدة على نفس فلسفة العرض، فمصممة الأزياء إيمان الشيخ قد نجحت فى تصميم أزياء (فانتازية)، لكنها فى ذات الوقت معبرة عن قيم ومعاني ودلالات جمالية تأويلية، فقد حمل تصميم الأزياء فكرة المزاوجة بين عناصر الزي، التي تحمل شفرات وإشارات دلالية معاصرة، من خلال إستخدام اللون والخط والملمس الذي شكل أيقونة الزي، والتى مثلت فى هذا العرض علامات رمزية دالة، لتبث دلالات سيكولوجية تعبر عن دوافع الشخصيات وأفعالها، وهذا يأتى من التحليل الدقيق للشخصيات وفق الرؤية الفلسفية التى اتفقت عليها مصممة الأزياء مع مخرج العرض، والتي سلطت الضوء على الصراع بين شخصيات العمل، وقد جاء هذا واضحًا فى (المكياج) أيضًا من خلال خطوط (المكياج) البسيطة النقية، والتي جاءت لإيضاح ملامح الوجه، من خلال (المكياج) التصحيحي لملامح الشخصية الحياتية، لتأتي مماثلة للشخصية المُمثلة، وبوجه عام جاء إستعمال (المكياج) البسيط للشخصيات بحيث يكون مقنعًا، أما (الإكسسوار) فقد جاء هو الأخر مكملًا لصور التشكيل البصري للعرض المسرحي، وبوجه عام فقد عبرت الأزياء عن الجو العام للمسرحية وأسلوبها، والجو العاطفي السائد في كل مشهد .

 

جاءت الإستعراضات التى صممها على جيمى فى العرض، لتزيد الصورة الجمالية قيم جمالية ومعانى تأويلية، فهى تارة تعلق وتارة أخرى تصف، وثالثة تمهد للأحداث فى نسيج (هارمونى) متجانس، دال على الرؤية الإخراجية والقيم الفلسفية الجمالية المرغوب توصيلها إلى المتلقى، علاوة على أن تلك الإستعراضات قد جاءت بصورة بها الكثير من الإبهار، كى تتداخل مع الإبهار التشكيلى البصرى والسمعى فى الديكورات والإضاءة والألحان والموسيقى، لتقدم المعادلات الدرامية غير اللفظية الدالة على الحالة المسرحية، لذا فإن الإستعراضات فى العرض كانت فاعل أساسى فى تكوين الصورة المسرحية، فقد نجح المصمم فى توظيف الأداء الحركى والحركات الإيقاعية لتخدم الدراما وتكملها .

 

نجح المخرج فى خلق الفراغ الحالم في معظم لحظات العرض المسرحي، فوجدت الشخصيات أماكنها وتحركت داخلها، كما قدمت الرؤية الإخراجية عرض مسرحي يسمح بتعدد القراءات، وبالتالي يدخل في الدائرة الجمالية للعمل الفني، كما اعتمدت الرؤية الإخراجية على الرمز والتجريد والتشفير، مما أفسح المجال أمام المتلقي من للإبحار فى المعنائية الخاصة به، من خلال توظيف الشخصيات توظيفًا فكريًا إبداعيًا وتربويًا، وعليه تعتبر الرؤية الإخراجية لهذا العرض قراءة إبداعية جديدة لموضوعات عايشتها الذات الانسانية، وقراءة قامت على التجريب والرمز والشفرة، وقابلة للتجدد فيها هو قيامها على الرمز في الموسيقى والديكور والضوء والزي والرقص التعبيري، والتي تؤثر في تداولية الموضوع نفسه على مستوى الدال وعلى مستوى المدلول بوصفه فكرة .

 

أثار العرض إشكالية الفضاء الأدائي العلاماتية بين الرؤية الإخراجية وأداء الشخصيات، والذي امتاز في العرض بجدة الدلالات، ومألوفية التواصلية مع منظومة خطاب العرض (السمعية، البصرية)، فضلًا عن استعراض التكوين الشمولي، ومنه المظهر البدني أحد أهم أبعاد الشخصيات، وتأكيدية العلاقة مع الأخر، مع (المتلقي / المؤول) والتعبير عن الروح الداخلية للشخصيات، وإنعكاسات إشعاعاتها على المتلقين، كما حملت الرؤية الإخراجية فى العرض دلالات ورموز وصور متعددة، إذ نجح المخرج فى جعل الشخصيات الدرامية تخترق الفضاءات المكانية، مما ساهم في إعطاء صورة واضحة عن الفضاء الدرامي، وبدوره إبراز الفضاء المسرحى، الذي يساهم هو الأخر في الكشف عن الفضاء النفسي والإجتماعي للشخصيات المعنية، فأي تغيير في الفضاء المكاني سيؤدي حتما إلى نقطة حاسمة في الحبكة والمنحنى الدرامى للخطاب، وكذلك في تركيب الحوار التداولي ووظيفته اللغوية والدرامية، وهو ما نجح فى إيجاده مخرج العرض، حيث جعل إرتباط الفضاء الدرامي مع الأحداث وسلوك الشخصيات، يعطي للخطاب الدرامي والمسرحى على حد سواء تماسكه النصي والمسرحى والدلالي، ليقرر الإتجاه الذي سيأخذه الحوار لتشييد هذا الخطاب، فالفضاء المكاني هو أحد المكونات الأساسية التي يتركب عليها الحدث .

 

تأسيسًا على ما سبق فإن عرض مملكة الحواديت استطاع تحقيق وظائف مسرح الطفل من خلال إشتغاله إشتغاله على تقديم الثقافة والمتعة والنصيحة والحكمة والأخلاق، فى قالب تربوى تثقيفى غير مباشر، يتميز بالمتعة السمعية والبصرية والفكرية أيضًا، والعرض يمثل نقلة نوعية لافتة لمستقبل مسرح الطفل والأسرة، ومؤشر قوى لإستغلال هذا النجاح فى تأكيد قدرة مسرح الدولة على محاربة التأثير السلبى (للسوشيال ميديا) على وجدان وعقول الأطفال، وحرمانهم من التفاعل الحى مع فنون المسرح .

 

وعليه تُعد مسرحية مملكة الحواديت نموذجًا يحتذى به في مسرح الطفل، فهي ليست مجرد عرض ترفيهي، بل هي تجربة تعليمية وتربوية متكاملة، من خلال قدرتها على دمج الخيال والكوميديا مع رسائل هادفة حول التنمر والخير والشر، وهو ما يجعلها وسيلة فعالة لبناء وعي الأجيال الصاعدة، إذ أن مسرح الطفل بكل ما يحمله من أحداث وشخصيات وقيم، يمثل الركيزة الأساسية في تنمية الإبداع وتعزيز القيم الإنسانية النبيلة في نفوس الأطفال، مما يساهم في تشكيل جيل واعٍ ومدرك لدوره في محاربة الشر وبناء عالم أفضل.

شاهد أيضاً

اعتذار مها الصغير يشعل الجدل حول الملكية الفنية وليزا نيلسن ترد

كتبت منة الله في أول تعليق منها على الأزمة التي شغلت الرأي العام مؤخرًا، خرجت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *