كتب سيد بدران
لم تكن “شهد” تعلم أن خطواتها الأخيرة صوب ترعة الإسماعيلية ستكون تذكرتها الوحيدة للخروج من حياة لم تختر تفاصيلها. فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة، وُلدت في مجتمع لا يمنح المرأة فرصة للتبرير، ولا يرحمها إذا ما همس أحدهم باتهام. مجتمع يُقدّس الشك أكثر من الحقيقة، ويحمل المرأة وزر الخطيئة حتى وإن كانت مظلومة.
في عزبة الصعايدة بمنطقة بهتيم، داخل منزل بسيط قديم، كانت تسكن شهد. فتاة كغيرها من الفتيات، لها أحلامها الصغيرة وأحاديثها اليومية، تتواصل مع العالم من خلال هاتفها المحمول، تضحك وتغضب، تُحادث أصدقاءها، وتعيش عالمًا بسيطًا افتراضيًا ربما كان المتنفس الوحيد لها.
لكن لحظة الغضب، وسوء الظن، وانعدام الثقة، حولت والدها إلى جلاد. اشتعل الشك في قلبه كالنار، وبدل أن يسألها أو يواجهها، اختار أن يتحول إلى قاضٍ وجلاد ومنفذ حكم في آن واحد. اعتدى عليها بالضرب، ثم اصطحبها بدمٍ بارد إلى ضفاف ترعة الإسماعيلية في مسطرد، وهناك، أُجبرت شهد على أن تُنهي حياتها بنفسها، أو على الأقل هذا ما أراده والدها: أن تختار الغرق على ما أسماه “العار”.
لم يكن الغرق خيارها، بل فَرْضًا كُتب عليها باسم الشرف الزائف. وبينما انسحبت أنفاسها الأخيرة تحت الماء، كانت كل نداءاتها للرحمة تُغرقها أكثر في صمتٍ رهيب.
وبعد يومين، لفظت الترعة جسدها الهزيل، لتبدأ الشرطة في فك خيوط الجريمة. تلقى اللواء محمد السيد، مدير الإدارة العامة لمباحث القليوبية، واللواء محمد فوزي، رئيس المباحث، بلاغًا بالعثور على جثة فتاة طافية على سطح المياه.
جاءت التحريات لتُسقط القناع عن الحقيقة المفجعة، حيث كشف المقدم مصطفى دياب، رئيس مباحث قسم ثان شبرا الخيمة، أن الجثة تعود للطالبة “شهد عماد س. أ”، 18 سنة، وأن والدها “عماد س. أ” هو من دفعها للموت بعد شكه في سلوكها، فقط لأنها تحدثت مع أكثر من شخص على الهاتف.
قوات الإنقاذ النهري انتشلت الجثة من المياه، وتم نقلها إلى مشرحة زينهم، لتخضع للتشريح. وبسرعة، تحركت الأجهزة الأمنية، وتم إعداد الأكمنة اللازمة بإشراف النقيب إبراهيم خضر وزملائه، حتى تم القبض على الأب القاتل، الذي اعترف بارتكابه الجريمة كما وُصفت تمامًا.
تحرر المحضر رقم 6472 لسنة 2025 إداري قسم ثان شبرا الخيمة، وتولت النيابة العامة التحقيق، التي أمرت بحبس المتهم 4 أيام على ذمة التحقيق، مع مراعاة التجديد، وقررت دفن جثة شهد بعد الانتهاء من الصفة التشريحية.
شهد لم تكن “عارًا”، بل كانت ضحية. ضحية أب جهل معنى الأبوة، وضحية مجتمع لا يُصغي للنساء إلا حين يُغتال صوتهن، ولا يصدق براءتهن إلا حين تُكتب على شاهد قبر.
على ضفاف الترعة، صمتت شهد، لكن صدى قصتها سيفضح كل من لا يزال يبرر القتل باسم الشرف.