بقلم : د. محمد جمال الدين
لطالما كانت المسرحية بصفتها انعكاسًا حيويًا للواقع الإنساني، منبرًا لإعادة تشكيل المفاهيم، وإثارة التساؤلات الفلسفية العميقة، وفي هذا السياق تبرز مسرحية الأطفال “إمبراطور البلي” تأليف عبده الزراع، فهي ليست مجرد قصة بسيطة عن لعبة، بل هي رحلة رمزية غنية بالمضامين الفكرية والتربوية، تقدم رؤية فلسفية متكاملة عن طبيعة الإنسان، ودوره في المجتمع، ومساعيه نحو المعرفة.
يتميز الشاعر والكاتب عبده الزراع بإسهاماته في أدب الأطفال، كأحد أهم رواد أدب الطفل في العصر المعاصر، وفي هذه المسرحية يقدم إطارًا دراميًا فريدًا يمزج بين البساطة والعمق، من خلال شخصياته المحورية كـ “عمو حسن” و”ميشو”، ومن خلال بناء المشاهد الدرامية، ينسج الكاتب خيطًا رفيعًا يربط بين عالم الطفولة البريء، وعالم الكبار المعقد.
تتألف المسرحية من ثلاثة مشاهد رئيسة، كل مشهد يمثل مرحلة تطورية في بنية السرد وفلسفة العمل، فالمشهد الأول يبدأ في المكتبة، وهو رمز للمعرفة والنظام، وهذا المشهد يضع حجر الأساس للمفاهيم التي ستبنى عليها المسرحية، حيث يُقدم عمو حسن كمثال للمثقف، القارئ، والمدرب، وفي هذا المشهد لا يكتفي بعرض أهمية القراءة فحسب، بل يُعرف الأطفال بشخصيات أدبية مثل كامل كيلاني، رائد أدب الأطفال في مصر والعالم العربي، وهذا التحليل للمشهد الأول يُظهر كيف أن المعرفة ليست مجرد معلومات، بل هي سياق تاريخي وثقافي يثري العقل.
ينتقل البناء الدرامي في المشهد الثاني إلى عالم مغاير تمامًا، هو الحارة الشعبية، وهذا الإنتقال يرمز إلى الإنتقال من عالم الفكر التأملي إلى عالم الواقع الفعلي، حيث تتجسد الصراعات الإنسانية في أبسط صورها، وهنا تبدأ لعبة البلي، التي تتحول من مجرد لعبة إلى ساحة صراع على السلطة والإعتراف، إذ أن دخول شخصية “ميشو”، الطفل الضخم الذي يفتقر إلى التعليم، يُحدث شرخًا في هذا العالم، حيث تتصادم قيم المجموعة وقيمه الفردية، إذ أن هذا الصراع ليس سطحيًا، بل هو صراع فلسفي بين “المجموعة” التي تمثل قيم التعاون والروح الرياضية، و”ميشو” الذي يمثل الأنانية والغش والغرور.
يتطور في المشهد الثالث الصراع ويصل إلى ذروته، إذ أن “ميشو” ينتصر في اللعبة، ويُعلن نفسه “إمبراطور البلي”، مما يدفعه إلى مزيد من الغرور والتجاوز، وهذا الإنتصار يجعله يفقد إنسانيته تدريجيًا، فيتعامل مع أقرانه بتعالٍ، ويرفض سلطة عمو أحمد، رمز الحكمة والمعرفة، وهذا السلوك هو تمثيل درامي لفكرة أن القوة وحدها دون أخلاق، تؤدي إلى الإنحطاط، لكن المسرحية لا تتوقف عند هذا الحد، بل تقدم الحل الفلسفي لهذا الصراع، فعمو أحمد يدعو الأطفال إلى المواجهة، لكن ليس مواجهة جسدية، بل مواجهة معرفية وفنية، وهذا يُعيدنا إلى فكرة المشهد الأول، حيث المعرفة هي القوة الحقيقية، عندما يتدرب الأطفال ويتقنون فن اللعبة، يتمكنون من هزيمة “ميشو”.
تقدم المسرحية مجموعة غنية من الأهداف التربوية والتعليمية، فعلى المستوى التربوي، تُعزز المسرحية قيم الروح الرياضية، والتعاون، واحترام الكبير، إذ أن شخصية عمو أحمد هي تجسيد لمبدأ المعلم والمرشد، الذي لا يكتفي بتوجيه الأطفال، بل يُشاركهم اللعب ويُعلمهم كيف يفوزون بشرف، أما على المستوى التعليمي فتُسلط المسرحية الضوء على أهمية القراءة والمعرفة، فهي تُزكي في الأطفال حب الكتب، وتُشير إلى أن المعرفة هي أساس التفوق الحقيقي، وليس القوة الجسدية وحدها.
تكمن الجماليات في المسرحية في بساطة لغتها الشعرية، وقدرتها على رسم عوالم متناقض، كما أن الأغاني الجماعية التي تتخلل المشاهد، ليست مجرد إضافة جمالية، بل هي جزء من البنية الدرامية، تُعبر عن حالة الشخصيات، وتُعزز من قيم العمل الجماعي والفرح، وهذا المزيج من الحوار البسيط والأغاني الجميلة يجعل المسرحية مناسبة للأطفال، وفي نفس الوقت، غنية بالدلالات الفلسفية للكبار.
يستخدم عبده الزراع العديد من الأساليب الإبداعية والفنية التي تُثري المسرحية، ومن أبرز هذه الأساليب هو التناقض الدرامي بين عالمين، عالم المكتبة الهادئ الذي يمثل المعرفة، وعالم الحارة الصاخب الذي يمثل التجربة الحياتية، وهذا التناقض يُبرز فكرة أن المعرفة ليست معزولة عن الواقع، بل هي أداة لفهمه وتغيير، كما أن استخدام الرموز مثل لعبة البلي، التي تتحول من مجرد لعبة إلى رمز للصراع على السلطة، هو أسلوب فني بارع.
بالإضافة إلى ذلك، فإن شخصية “ميشو” تُقدم على أنها تجسيد رمزي لـ “امبراطور البلي”، وهو رمز للقوة الخام التي لم تُهذب بالتعليم، وهذا التجسيد الدرامي لشخصية “ميشو”، الذي يرفض القراءة، ويُعلن نفسه إمبراطورًا، هو أسلوب فني يُظهر كيف أن الغرور والجهل يُصبحان قوة مُدمّرة، ليس فقط للآخرين، بل ولصاحبها أيضًا.
وعليه فإن مسرحية الأطفال “إمبراطور البلي” ليست مجرد مسرحية للأطفال، بل هي عمل فكري يطرح تساؤلات حول معنى القوة الحقيقية، وهل هي في التفوق الجسدي، أم في قوة العقل؟، وهل هي في الغرور، أم في التواضع والإعتراف بالخطأ؟، والمسرحية تُجيب عن هذه الأسئلة من خلال رحلة “ميشو” الدرامية، الذي يبدأ كشخصية مغرورة، وينتهي كشخص يطلب العون ليتعلم، وهذا التحول العميق في الشخصية يؤكد أن الطريق إلى النضج يبدأ بالإعتراف بالجهل، وأن المعرفة ليست حكراً على أحد، بل هي حق لكل إنسان، لذا فإن “إمبراطور البلي” مسرحية تترك في النهاية رسالة خالدة، وهي أن اللعبة الحقيقية في الحياة ليست في الفوز على الآخرين، بل في الفوز على الجهل في داخلنا، وأن “العلم نور” يمكنه أن يضيء حتى أحلك الزوايا في نفوسنا.