بقلم : د. محمد جمال الدين
يُعد الدكتور عمرو دواره واحدًا من قامات المسرح المصري والعربي، لا سيما في مجال مسرح الطفل، حيث تتعدد إسهاماته بين الإخراج والنقد والتوثيق، إذ إن تجربته الغنية، التي تمتد لعقود، تتجاوز مجرد تقديم العروض، لتصل إلى تأسيس رؤية ومنهجية واضحة في التعامل مع هذا الفن الحساس الذي يستهدف بناء وعي الأجيال القادمة، إذ يتميز د. دواره بكونه لا يقدم فقط عروضًا مسرحية ممتعة للأطفال، بل يسعى لتأصيل فلسفة تربوية وجمالية عميقة من خلال تقنيات إخراجية مبتكرة.
تنبع فلسفة د. عمرو دواره في إخراج مسرح الطفل من إدراكه العميق لطبيعة المتلقي الصغير، فهو يرى أن مسرح الطفل ليس مجرد وسيلة ترفيه، بل منصة تعليمية وتربوية تسهم في تشكيل وعي الطفل وتنمية قدراته، وهذا الإدراك يوجه اختياراته للنصوص، حيث يولي أهمية كبيرة في اختيار النص المناسب الذي يحمل رسالة إيجابية وقيمًا بناءة، مع مراعاة البساطة والوضوح في السرد لتناسب الفئة العمرية المستهدفة.
لا يكتفي د. دواره بتلقين المعلومة، بل يسعى إلى إلهام الأطفال وتشجيعهم على التفكير النقدي والإبداعي، إذ يؤمن بأن العرض المسرحي يجب أن يكون محفزًا للخيال، فاتحًا آفاقًا جديدة أمام الطفل لاكتشاف عوالم مختلفة، ولتحقيق ذلك يركز على عنصر المشاركة والتفاعل، محوّلاً الطفل من مجرد متلقٍ سلبي إلى جزء فاعل في العمل المسرحي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذه المشاركة قد تتخذ أشكالاً متعددة، من التفاعل الصوتي إلى الحركة، مما يعزز انغماس الطفل في التجربة المسرحية ويزيد من تأثيرها.
كما يشدد د. دواره على أهمية الشخصية الإيجابية للبطل، لتقديم نموذج يُحتذى به للأطفال، يدعم القيم الأخلاقية والإنسانية، فهو لا يغفل البعد الأخلاقي والاجتماعي للعرض، ويعمل على غرس المفاهيم الإيجابية بطريقة غير مباشرة وممتعة، كما يركز د. دواره على مجموعة من العناصر التي يرى أنها ضرورية لنجاح عروض مسرح الطفل، منها الإبهار البصري والسينوغرافيا الجذابة، دون تكلف ودون ميزانيات ضخمة، إذ يدرك د. دواره أن الحواس البصرية للطفل هي مفتاح جذب انتباه، لذا يولي اهتمامًا كبيرًا للديكور، والإضاءة، والألوان، والأزياء، والماكياج، بحيث تخلق كلها فضاءً بصريًا ساحرًا ومبهرًا، بتكاليف بسيطة جدا، وهذه العناصر لا تخدم فقط الجانب الجمالي، بل تساهم في إيصال رسالة العرض وتعميق معانيه، كما يرى د. دواره أن طبيعة الأطفال أنهم يميلون إلى الملل السريع، وهو ما يستدعي إيقاعًا ديناميكيًا وسريعًا للعرض، إذ يتجنب الرتابة والإطالة، ويدمج الحركة الدائمة والتغيير في المشاهد لضمان استمرارية انتباه الطفل، إذ يعتمد على التحولات السريعة في الديكور والإضاءة، واستخدام الموسيقى والمؤثرات الصوتية لخلق أجواء متجددة تحافظ على حيوية العرض.
يؤكد د. دواره على أن الممثل هو أساس العرض المسرحي ومحوره في مسرح الطفل، ويرى ضرورة أن يمتلك الممثل قدرات خاصة للتواصل مع الأطفال، وأن يتمتع الممثل بالليونة والمرونة في الأداء، وأن يكون قادرًا على التعبير بوضوح وبساطة، مع الحفاظ على روح الحيوية والمرح، وهو ما يتضح في نماذج أعماله الإخراجية لمسرح الطفل، إذ يمتلك د. عمرو دواره رصيد غني من الأعمال الإخراجية في مسرح الطفل، التي تعكس فلسفته وتطبيقاته لتقنياته، ومن أبرز هذه الأعمال قطار الحواديت، وعصفور خايف يطير، والعصا السوداء، وحقوق الأبناء، والتاج المسحور، وتُظهر هذه الأعمال قدرته على تقديم عروض مشوقة ومحفزة للأطفال، تتناول قضايا اجتماعية وأخلاقية، وتنمي فيهم حب المعرفة والخيال، وكل ذلك في إطار بصري مبهر وإيقاعي جذاب.
تجاوزت إسهامات الدكتور عمرو دواره الحدود المحلية، حيث شارك في العديد من الفعاليات والمهرجانات الدولية، وحصد تقديرًا كبيرًا على المستويين العربي والعالمي، فمثلا على سبيل المثال لا الحصر مهرجان توياما العالمي لمسارح الأطفال باليابان، إذ حصل على جوائز مهمة في هذا المهرجان الدولي، منها جائزة العرض الأول عن عرض حقوق الأبناء عام 2000، وجائزة الإخراج الأولى عن عرض العصا السوداء عام 1996، وهذه الجوائز تعكس الاعتراف الدولي بتميزه في مجال إخراج مسرح الطفل، كما كرم في مهرجان المسرح الأمازيغي مما يدل على تقدير أعماله في الساحة المسرحية العربية، كما حظي بتكريمات من شخصيات بارزة ووزراء ثقافة في دول عربية مثل سمو الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة، ووزراء الثقافة في الجزائر، والمغرب، والعراق، والأردن، ونقيب الفنانين بسوريا، مما يؤكد مكانته الرفيعة في المشهد الثقافي العربي.
حصد د. دواره جائزة الدولة للتفوق في الآداب (2022)، وتُعد هذه الجائزة من أرفع الجوائز في مصر، وقد حصل عليها د. دواره عن مجمل أعماله الأدبية في النقد، والتأريخ، والتأليف، والإخراج، وهذا التكريم الرسمي من الدولة يعكس تقديرها العميق لإسهاماته الشاملة في المسرح.
حاز د. دواره على العديد من الجوائز في الإخراج المسرحي في المسرح الجامعي ومسارح هيئة قصور الثقافة، مما يؤكد جودة أعماله على مختلف المستويات، كما نال الجائزة الأولى للنقد الأدبي من اتحاد كتاب مصر (2016)، وبالإضافة إلى أعماله الإخراجية يُعرف د. دواره بكونه ناقدًا ومؤرخًا مسرحيًا.
يجمع أسلوب د. دواره بين الخبرة الأكاديمية العميقة التي أكتسبها من دراسته في الهندسة ونظم المعلومات، ودكتوراه في فلسفة الفنون، وبين الحدس الفني والشغف اللامحدود بالمسرح، وهذا المزيج الفريد يمنحه القدرة على التفكير المنهجي والتحليلي في تصميم العروض، وفي الوقت نفسه يجعله قادرًا على الإبداع والابتكار في تقديم أفكار جديدة تناسب الأطفال والكبار، إذ تميز أسلوبه بالقدرة على تبسيط الأفكار المعقدة، وتقديمها في قالب فني شيق وممتع، فأعماله المعروفة في مسرح الطفل على وجه الخصوص، تعكس منهجه في تقديم رسائل هادفة ضمن إطار فني جذاب.
لا يقتصر تأثير د. عمرو دواره على إخراج العروض المسرحية للأطفال والكبار، بل يمتد ليشمل التوثيق المسرحي وإصدار كتب قيمة مثل “مسارح الأطفال”، و”موسوعة المسرح المصري المصورة” التي تعد مرجعًا هامًا للباحثين المهتمين، وهذه الموسوعة الضخمة، التي توثق لأكثر من 150 عامًا من تاريخ المسرح المصري، تُعد إنجازًا فريدًا يؤكد على دوره كحارس لذاكرة المسرح المصري، وهذا الجانب التوثيقي يؤكد على رؤيته الشاملة للمسرح كفن وعلم وتاريخ.
الحديث عن د. عمرو دواره يستحق الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية وليس مجرد مقال، خاصة أنه قدم للاوساط الفنية المسرحية والبحثية والأكاديمية أجيال تتلمذت على يديه، أصبحوا الأن نجوم تتلالا في شتى المجالات، لذا فإن د. عمرو دواره حالة استثنائية فريدة وشديدة الخصوصية في تاريخ المسرح المصري يصعب تكرارها.