الإثنين , يوليو 7 2025

الموسيقى وإعادة خلق الوجود المسرحى

 بقلم : د. محمد جمال الدين

لعبت الدراما والموسيقى منذ بدايات الإنسان الأولى دوراً مؤثراً فى الحياة، إلا أن تبلور هذا الدور ظهر بشكل أوضح مع بداية ظهور الحضارات الإنسانية، بل وأصبح دوراً أكثر فعالية، فمنذ عهد الإغريق وحتى وقتنا الحاضر، أصبحت العلاقة بين الدراما والموسيقى علاقة مترابطة ومتواصلة، فلم تعد تقتصر على الإحتفالات والمناسبات والطقوس، بل اتخذت لها مكاناً مرموقاً على خشبات المسارح، بل تجاوزت ذلك بالإسهام فى بناء المجتمعات وتطويرها .

وقد شهدت الدراما فى الحضارة الإغريقية إزدهاراً كبيراً وعظيماً، وارتبطت بالموسيقى إرتباطاً وثيقاً، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الدراما، إذ ارتكزت عليها بشكل أساسى فى الطقوس والإحتفالات الدينية والدنيوية، إعتماداً على الإرتباط بين الموسيقى والشعر، وإنطلاقاً من حقيقة العلاقة التبادلية والتفاعيلية بينهما، إذ أن الميزان الموسيقى عامل مشترك، يستمده الشعر من أصول الموسيقى، فيشكل مصدراً للموسيقى فى إختيار الإيقاع المناسب، للكلمة أو الجملة أو الدلالات .

كما إن مدلول (موسيقى) عن الإغريق تعنى فناً مركباً، يجمع بين الشعر والرقص والتمثيل، حيث تعود نشأة الدراما بمكوناتها الأساسية (التراجيديا، والكوميديا) إلى الرقصات الغنائية الطقسية (الدينوسوسية) .

ومع ظهور الديانة المسيحية وسيطرة الكنيسة تعاظم شأن ودور الموسيقى، واعتمدت الكنيسة عليها فى طقوسها الدينية، أما فى بداية عصر النهضة ومع ضعف سطوة الكنيسة، حرر الفن من الأفكار المتزمنة، وظهر نوع جديد من الدراما الموسيقية وهى (المونوفونية)، وهى موسيقى بسيطة أحادية الصوت، استخدمت فى تقديم العديد من المسرحيات الغنائية الريفية فى أوربا، وبمرور الوقت تطور هذا النوع من الدراما الموسيقية، وتداخل مع العديد من الفنون الأخرى فى وحدة واحدة، وأطلق عليه فن (الأوبرا)، وهو فناً مسرحياً موسيقياً، يعرف بأنها فن الترابط بين التمثيل الدرامى والموسيقى والأداء الشعرى، وذلك الترابط خلق نوعاً من التكوين الجمالى يتحسسه المتلقى لحظة المشاهدة .

ومع حلول القرن التاسع عشر تطور فن (الأوبرا)، فبعد أن كانت الدراما قبل ذلك تلعب دوراً ثانوياً بالنسبة للموسيقى، أصبحت الموسيقى فى خدمة الدراما وتابعة للحالة الدرامية، كما ظهر أيضا فن (الأوبريت) في القرن التاسع عشر وهو عرض مسرحى غنائى تصاحبه بعض الحركات التى يغلب عليها أن تكون إيقاعية منظمة، وهو فى الغالب غنائى ملحن تصاحبه الموسيقى من أوله لأخره، ولكنه قد يحتوى فى القليل النادر على كلام يلقى بلا موسيقى أو غناء، كأحد الأشكال التي تطورت إليها (الأوبرا)، ثم أصبحت نوع مستقل له طابع عاطفي، لا يخضع للقواعد الصارمة التي نجدها في (الأوبرا)، وتستند الموسيقى الدرامية فيه إلى ألحان سهلة وسريعة الحفظ، بل أصبح يحتوي على حوار كلامي يطرح موقفاً درامياً أكثر مما كان عليه فى بداية نشأته، وعليه ازدهر فن (الأوبريت) منذ نهاية القرن التاسع عشر ومع بدايات القرن العشرين، وأصبح من أنواع المسرح الموسيقى الغنائى الناجح، الذى يجد قبولاً من الجمهور على إختلاف طبقاته .

إن وظيفة الموسيقى فى المسرح وعلى ضوء ما تقدم، تتجاوز التقنيات على أهميتها، إلى خلق شخصيات وأبعاد معنوية ونفسية وحالات مسرحية متكاملة العناصر، قد تضفي أبعاداً جديدة مستقلة ومتفاعلة مع البناء المسرحي العام، تغنيه وتشارك في مساره، بل تصنعه في كثير من الأحيان، إذن الموسيقى بعد آخر في ملامح العمل المسرحي، فالموسيقى والمسرح ليسا لغتان إلا من باب الأدوات والتقنيات، أما الإنسان فحين يلتقي العمل المسرحي، فالعين كما الأذن بوابتان إلى الوجدان الإنساني، إذ تمحى الفواصل وتتماهى جزيئات المتعة في وجود واحد.

وعليه فكل مسرح هو موسيقى، وكل موسيقى هي مسرح، لكن بين هذا وذاك مساحة من التباينات التي تتدرج معها غلبة الموسيقى على المسرح أو العكس، فللموسيقى أدواتها بوصفها لغة تعبير وإيحاء وتحفيز وجداني، وللمسرح كذلك، وحين تجتمع الأدوات فاللعبة واحدة، لا يمكن فيها أن ندعي خدمة أحد المركبين للآخر دون تبادلية فعالة لهذه الخدمة، إذ أن كل الأبعاد المتولدة عن تفاعلات العناصر المسرحية من نص كلامي إلى نبرات إلى لغة جسد وإيماءات إلى عناصر الشكل البصرية والضوئية وغيرها الكثير، تتفاعل بدورها مع جميع الأبعاد المتشكلة عن تفاعلات العناصر الموسيقية، من الصمت إلى نبرات اللغة، إلى الأصوات على أشكالها وأنواعها وإختلاف سلوكها، من الوشوشات والحشرجات إلى الصراخ والضجيج، ومن فوضى الأصوات الغير منغمة إلى هارمونية الألحان العذبة، كل هذا لا ينظر إليه إلا بعين واحدة، عين المتعة المسرحية المتكاملة.

والموسيقى بطبعها وطابعها فى المسرح لغة بعيدة عن المباشرة، وعن تسمية الأشياء بأسمائها، الموسيقى بطبيعتها الأولى لا تحدد بل تحرر، ولا توجه بل تطلق، ولا تشرح أو تفسر لكنها توحي وتحير، إنها لغة صامتة، لا تقول أي شيء إلا كي تقول كل شيء، وعليه ينبغي الوعى التام وفهم أهمية الموسيقى في تحفيز الذهن والعاطفة، نحو الخيال والبحث والتأويل، فالموسيقى هنا وفي حضن العناصر المسرحية الأخرى الداعمة فى عروض المسرح، إنما تشكل عنصراً هاماً في تنشيط الوعي الدلالي والإدراك الحسي، فهي لا تحيل الأشياء والعناصر إلى ذاتها، بل تفرقها عن ذاتها وتنزع عنها مرجعياتها المعنوية والدلالية، ناقلة كل ما يشاهد ويسمع إلى حيز الفعل الذهني المشارك والخلاق، لا إلى الحيز الذهني المتلقي بسلبية وخمول، إنها تفكفك المتحد، وتشكك بالمطلق، وتهدم المسلمات، وتخلخل المفاهيم وتسقط المعاني المعجمية من علياء جمودها نحو حركية ودينامية خلاقة وشكاكة وباحثة.

الموسيقى المسرحية بطبيعتها وطبعها غير مطيعة، تفاجيء وتناور وتتقلب وتخلخل وتخون وتتجاوز، إنها الحياة بعينها، لا تقبل الثبات ولا الطاعة، إلى هذا كله تؤسس الموسيقى المسرحية في مسار تسللها إلى ذهن المستمع / المشاهد ووجدانه، إنها تؤسس إلى إنسان آخر، إنسان في خلقه، وفي حركته الدائمة وفى إبداعه ونموه، فهى لا تعلم بل تضلل، والموسيقى المسرحية لا تفسر أو تشرح بل تحير وتثير الأسئلة، فهى لا ترى إلى الوجود بوصفه حقيقة بل تخلق هي حقائقها الخاصة، حقائق من الخيال والخداع، لكنها ربما أجمل من الواقع، وعليه فالموسيقى المسرحية لا تشرح الوجود ولا تفسره ولا تقدسه، لكنها تعيد خلقه باستمرار، تؤلفه فيما يؤلفها وتهدمه فيما تبنيه، و من هنا أيضا يمكن فهم مدى قدرة الموسيقى المسرحية في التأثير على نمو وتطور شبكة مفاهيم وتداعيات الخواطر المتشكلة في ذهن المستمع / المشاهد، والتي تشكل بدورها جزءاً هاماً من وعيه وحسه وإدراكه ووسائل إنفعاله وتفاعله مع الحياة .

والموسيقى المسرحية ليست مجرد آداة تجميلية أو تأثيرية في عمل درامي مسرحى، بل هى آداة تسقط بظلالها على التشكل المعنوي والدلالي، وعليه تتراوح الإستخدامات المباشرة للموسيقى في المسرح بين الموسيقى التي تروي في بنائها الهندسي وفي شحنتها الداخلية قصة ما، وبين الموسيقى المقتصرة على المؤثرات الصوتية التي تدعم وتساهم في تشكيل الأجواء أو تعزز مشاعراً ما أو تسبق لها أو تزيلها، فبين هذا وذاك فارق نوعي في اللغة الموسيقية، وفي فهم الصوت كمادة أساسية في صناعة هذه اللغة وتشكيلها، وفي الوعي بقوانين اللعبة الفنية بين الموسيقى كمؤثر صوتي أو الموسيقى كفاعل درامي شديد العمق، وكعامل جديد يضيف للعمل المسرحي بعداً لا يتوفر إلا فيه ولا يتحقق إلا به، فالموسيقى كمؤثر صوتي عنصر هام في الإستخدامات المسرحية، إذ أنه “يلون” الشكل المسرحي، وهو يغني ويشكل الأجواء ويسهم في خلق البيئة المكانية والزمانية، ويضخم المشاعر والحالات الدرامية .

لذلك تأخذ الموسيقى المسرحية على عاتقها مهام من نوع جديد، إذ تتجاوز الموسيقى حدود خضوعها للعوامل المسرحية التقليدية، وتتحول إلى فاعل أساسي إلى بجوار الدراما والرؤية الإخراجية وباقى عناصر العرض المسرحى، وهنا تبدأ متعة المسرح .

شاهد أيضاً

أحمد سويلم فارس الكلمة في مسرح الطفل

بقلم : د. محمد جمال الدين يُعد الشاعر والكاتب المسرحي المصري أحمد سويلم قامة فنية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *