كتب مصطفى قطب
في صفحات السيرة النبوية، يتألق اسم خباب بن الأرت، ليس كأحد الصحابة فحسب، بل كأحد أعمدة الصبر والثبات في وجه الجلادين والطغاة. كان خباب عبدًا مملوكًا، حُرم من الجاه والمال، لكنه امتلك من قوة الإيمان ما جعله يُخلد في التاريخ كأحد أوائل السابقين إلى الإسلام وأشدهم صبرًا على العذاب.
نشأته وحرفته
ولد خباب بن الأرت في مكة، وكان مولى لبني تميم. امتهن صناعة الحدادة وصناعة السيوف، فكان من أمهر الحدادين في مكة. لكنها مهنة لم تشفع له من قسوة المشركين حين علموا بإسلامه.
إسلامه المبكر وثباته
كان خباب من السباقين إلى الإسلام، أسلم في الأيام الأولى لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان من قلة من الصحابة الذين أظهروا إسلامهم في وقت كان مجرد الإعلان عن الانتماء إلى هذا الدين يعني الهلاك.
عذابه في سبيل الله
ذاق خباب صنوف العذاب التي تقشعر لها الأبدان. فقد كان يُسحب على الصخور المحمية بالنار حتى تحترق جِلده.
كانت قريش تشعل النار حتى تتوهج الحجارة، ثم يُطرح خباب عليها عاري الظهر، فلا يطفئها سوى شحم ظهره الذي يذوب من شدة الاحتراق.
قال خباب يومًا وهو يُري ظهره للصحابة:
“لقد أوقدوا لي نارًا وسحبوني عليها حتى أطفأها دهن ظهري.”
ورغم هذا العذاب، لم يتزحزح قلبه عن الإسلام، بل كان صبره مدرسة لكل من جاء بعده.
معلم النبي الخفي
كان خباب معلم القرآن للصحابية الجليلة فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد، وقد أسلم على يديه عمر بن الخطاب عندما دخل على أخته ليجدها تتلو القرآن، فكان خباب هو معلمهم.
مقامه عند النبي
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقدر خبابًا تقديرًا عظيمًا، ولما اشتكى الصحابة إليه ما يلقونه من قريش، قالوا:
“يا رسول الله ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟”
فقال لهم النبي، مشيرًا إلى صبر أمم سبقتهم:
“إنه قد كان يؤتى بالرجل فيُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه…”
ثم بشرهم بالنصر والتمكين.
دوره بعد الهجرة
حين هاجر النبي وصحابته إلى المدينة، كان خباب من المهاجرين الأوائل، وشارك في الغزوات إلى جانب النبي، واستمر في نصرة الإسلام بعد وفاته، وكان له مكانة بين الصحابة الكبار.
وفاته ومكانته
مات خباب بن الأرت في الكوفة زمن خلافة علي بن أبي طالب، وكان علي يقول حين يمشي في جنازته:
“رحم الله خبابًا، أسلم راغبًا، وهاجر طائعًا، وعاش مجاهدًا، وابتُلي في جسده.”
دُفن خباب في العراق، وترك لنا درسًا خالدًا في الثبات على العقيدة مهما اشتد الأذى.