كتبت بوسي عواد
في خطوة طال انتظارها لعقود، بدأت الجهات الحكومية المعنية الإعلان عن وحدات تابعة لها، سيتم طرحها خلال الفترة الانتقالية لتطبيق قانون الإيجارات القديمة، على أن يتم منح أولوية التخصيص للمستأجرين الحاليين أو من امتد إليهم العقد قانونيًا، شرط التقدم بطلب رسمي مصحوب بإقرار بالإخلاء الطوعي، وذلك ضمن رؤية جديدة لإصلاح العلاقة بين المالك والمستأجر على أسس عادلة ومتوازنة.
يمثل مشروع القانون الجديد واحدًا من أجرأ التحركات التشريعية في ملف الإيجارات القديمة، بعد سنوات طويلة من الجمود القانوني والصراع المجتمعي بين أطراف العلاقة الإيجارية. فبينما ظل الملايين من المستأجرين متمسكين بحقوقهم التاريخية في السكن، عانى الملاك من تدنٍ كبير في العائدات وغياب التوازن، في ظل عقود لم تُحدث منذ خمسينات القرن الماضي.
وفي هذا السياق، قررت الحكومة أن تعالج الملف بطريقة تدريجية تضمن العدالة الاجتماعية، دون المساس المباشر بحقوق الأسر المقيمة، مع فتح الباب أمام إعادة توزيع الموارد العقارية بشكل أكثر فاعلية، خاصة في المدن الكبرى والمناطق ذات الكثافة السكانية.
وبحسب الملامح الرسمية للآلية الجديدة، فإن الوحدات التابعة للجهات الحكومية أو شركاتها القابضة التي يُعاد تخصيصها خلال الفترة الانتقالية، ستُمنح فيها الأولوية للمستأجرين أو من امتد إليهم العقد قانونًا، شريطة تقديم طلب مرفق بإقرار بالإخلاء الفوري للوحدة الأصلية، مما يتيح للجهاز الإداري للدولة إعادة استغلال الأصل العقاري.
وتُراعي الآلية أيضًا طبيعة المنطقة الأصلية التي كانت تقع بها الوحدة المستأجرة، بمعنى أنه في حال تزاحم الطلبات، ستكون الأولوية لمن كان يسكن في منطقة مشابهة في الطابع السكاني والاجتماعي والاقتصادي، تجنبًا لإحداث تغيير قسري في نمط معيشة الأسر أو نقلها لمناطق غير مناسبة.
أكد مسؤول بارز في وزارة الإسكان، أن الإجراءات تأتي ضمن رؤية شاملة لمعالجة ملف الإيجارات القديمة دون المساس بمصالح المواطنين أو طردهم قسرًا، مضيفًا:
“لن يُجبر أحد على ترك مسكنه التاريخي إلا إذا تم توفير بديل عادل، وبشروط منصفة للطرفين، المالك والمستأجر على حد سواء.”
وأوضح المسؤول أن الإقرار بالإخلاء هو بمثابة وثيقة تفاهم طوعية، تُمكن الدولة من استعادة وحدات قديمة غير مستغلة بالشكل الأمثل، مقابل توفير وحدة بديلة بنفس القيمة أو بشروط جديدة أكثر توازنًا، وهو ما يُعد خطوة ضرورية نحو إعادة هيكلة سوق العقارات المؤجرة.
ويُنتظر أن تبدأ اللجنة المشتركة بين لجنتي الإسكان والشؤون الدستورية والتشريعية مناقشة مشروع القانون الجديد خلال الأيام القليلة المقبلة، وسط اهتمام نيابي وشعبي واسع، لما له من تأثير مباشر على ملايين المصريين الذين يعيشون في شقق خاضعة لقانون الإيجارات القديمة.
وأكد المستشار الدكتور حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، في جلسة سابقة، أن أسماء النواب ستُنادى بصوت عالٍ خلال مناقشات المشروع، لما تحمله الجلسة من أهمية وطنية قصوى، مشيرًا إلى أن البرلمان يهدف إلى تحقيق التوازن المطلوب دون انتصار لطرف على حساب آخر.
يُقدّر عدد الوحدات السكنية الخاضعة للإيجار القديم في مصر بنحو 2.9 مليون وحدة.
تشير تقديرات غير رسمية إلى أن العائد الإيجاري على عدد كبير من هذه الوحدات لا يتجاوز 5 جنيهات شهريًا.
نحو 40% من هذه الوحدات مغلقة فعليًا، ما يشكل عبئًا على الدولة ويهدر موارد سكنية هائلة.
الملاك يرون أن القانون المنتظر يُعيد إليهم حقًا مغتصبًا، خاصة أن كثيرًا منهم باتوا لا يستفيدون من أملاكهم التي وُرّثت عبر أجيال، في حين أن أسعار العقارات في المناطق نفسها بلغت أرقامًا فلكية، بينما هم عاجزون عن بيع أو استغلال ممتلكاتهم بحرية.
في المقابل، يعتبر المستأجرون أن أي قانون يجب أن يُراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمقيمين، لا سيما كبار السن، وذوي الدخل المحدود الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف الانتقال أو الاستئجار بأسعار السوق الحالية.
وفي هذا السياق، يُعد شرط تقديم إقرار بالإخلاء الطوعي نوعًا من التوازن، حيث لا يُجبر المستأجر على الرحيل، بل يُمنح بديلًا بضوابط جديدة.
يرى خبراء في الاقتصاد والعقارات أن هذه الآلية تعد أول تطبيق عملي لتحريك المياه الراكدة في ملف الإيجارات القديمة، خاصة أن الحكومة بدأت تتعامل مع الأمر عبر تشريعات انتقالية مدروسة، بدلاً من فرض قرارات فجائية قد تؤدي إلى تفكك اجتماعي.
ويؤكد الدكتور محمود الجنزوري، الخبير في التشريعات العقارية، أن النظام الجديد سيساهم في:
تحقيق العدالة بين أطراف العلاقة الإيجارية.
تحفيز السوق العقارية وإعادة ضخ وحدات كانت خارج الخدمة.
تعظيم عوائد الأصول غير المستغلة التابعة للدولة.
تخفيف العبء على موازنة الحكومة في ملف دعم السكن.
رغم إيجابية الطرح، فإن المشروع يواجه عدة تحديات متوقعة، منها:
مقاومة بعض الفئات لأي تغيير على الوضع الراهن.
عدم جاهزية بعض الجهات الحكومية لتوفير وحدات بديلة في نفس المستوى.
خطر الاستغلال من قبل سماسرة أو جهات غير رسمية قد تُضلل المواطنين.
وبينما تدخل مصر مرحلة جديدة من إعادة صياغة منظومة السكن الإيجاري، يُتوقع أن تكون الفترة المقبلة حافلة بالنقاشات، والتحركات التشريعية، والمقترحات المجتمعية التي تسعى إلى وضع نهاية عادلة لملف الإيجارات القديمة، بعد أن ظل لعقود عنوانًا للتعقيد القانوني والتجاذب الاجتماعي.
ويبقى الأمل في أن تنجح الحكومة والبرلمان والمجتمع المدني في بناء جسور الثقة بين المالك والمستأجر، على قاعدة المصلحة الوطنية المشتركة، لا المكاسب الفئوية الضيقة.