الأحد , يوليو 6 2025

أبعاد الأساليب الإخراجية فى مسرح الطفل المعاصر

بقلم : د . محمد جمال الدين

يُعد الإخراج المسرحي فنًا جامعًا يُترجم النص المكتوب، إلى تجربة حية على خشبة المسرح، فهو يجسد رؤية المخرج في تشكيل العناصر المسرحية لتوصيل رسالة أو إثارة عاطفة، لكن الإخراج ليس مجرد مجموعة من التقنيات، إذ أنه يتجلى في أساليب متعددة، تتداخل فيها الأبعاد الجمالية، والفنية، والثقافية، والتربوية، لتشكل بصمة فريدة لكل مخرج وعرض، وهذه الأساليب ليست ثابتة، بل تتطور وتتغير مع تحولات المجتمعات والفنون، وتتأثر بالفلسفات المختلفة التي ينطلق منها المخرج.

تهتم الأبعاد الجمالية في الإخراج لمسرح الطفل بخلق المتعة الفنية والتأثير البصري والسمعي، الذي يلامس حواس المتلقي ووجدانه، إذ أن المخرج الذي يتبنى أسلوبًا جماليًا معينًا، يسعى إلى خلق الصورة المسرحية، وهي التكوين البصري العام للعرض، بما في ذلك حركة الممثلين، والديكور، والإضاءة، والألوان، وهذه الأساليب الجمالية قد تتراوح بين الواقعية الفوتوغرافية، التي تحاكي الواقع بدقة، والرمزية التي تعتمد على الإيحاء والتجريد، وصولًا إلى الأساليب التعبيرية التي تشوه الواقع لتعكس حالات نفسية داخلية، أيضًا هناك التناغم والإنسجام، إذ يُهدف الأسلوب الجمالي إلى تحقيق التناغم بين جميع عناصر العرض، بحيث لا يطغى عنصر على آخر، وتعمل جميعها كوحدة واحدة متجانسة تخدم الرؤية الكلية، علاوة على الإيقاع، إذ يتحكم المخرج في إيقاع العرض من خلال سرعة الأداء، وفترات الصمت، وتغيرات الإضاءة والموسيقى، لخلق تدفق جمالي يشد انتباه الجمهور، مع عدم إغفال الإبهار والإمتاع، فبعض الأساليب الإخراجية تركز على الإبهار البصري والتقني، باستخدام المؤثرات الخاصة، والعروض الضوئية، والديكورات الضخمة لخلق تجربة حسية غنية.

أما الأبعاد الفنية في الأساليب الإخراجية، تتعلق بكيفية توظيف المخرج لأدواته وعناصره المسرحية بمهارة وحرفية لتحقيق الرؤية الفنية وتشمل، اختيار الممثلين وتوجيههم، فالمخرج يختار الممثلين الذين يتناسبون مع الشخصيات، ثم يعمل على تطوير أدائهم، وتحديد حركاتهم، وإيقاع حديثهم، وتعبيراتهم الجسدية، بما يخدم الرسالة الفنية، أيضًا تصميم السينوغرافيا، فالإشراف على تصميم الديكورات (من الواقعية إلى التجريدية)، والإضاءة (من الطبيعية إلى الرمزية أو التعبيرية)، والأزياء (من التاريخية الدقيقة إلى الخيالية)، والمؤثرات الصوتية والموسيقية، فالمخرج هو من يحدد العلاقة بين هذه العناصر، لخلق الفضاء المسرحي المطلوب، مع استخدام التقنيات المسرحية، مثل المسرح الدوار، والإسقاطات الضوئية، والدمى، والظلال، أو المؤثرات الخاصة لتعزيز السرد أو خلق جو معين، وأيضًا اللغة المسرحية، بمعنى فهم كيفية استخدام لغة المسرح (البصرية، والسمعية، والحركية) للتعبير عن الأفكار والمشاعر، التي قد لا يستطيع النص وحده توصيلها.

وتُظهر الأبعاد الثقافية فى الأساليب الإخراجية انعكاسًا عميقًا للثقافة التي نشأت فيها، وتتأثر أيضًا بالهوية، والتقاليد، والقيم، والتحولات الاجتماعية وتشتمل على، الهوية الثقافية إذ يعكس الأسلوب الإخراجي غالبًا هوية ثقافية معينة، سواء في اختيار القصص، أو فى تصميم الأزياء، واستخدام الموسيقى المحلية، أو طريقة تناول القضايا الاجتماعية، والتأثر بالتقاليد المسرحية إذ تتأثر بعض الأساليب الإخراجية بتقاليد مسرحية عريقة مثل المسرح (الياباني) (الكابوكي) و(النو)، أو المسرح (الهندي)، أو المسرح الشعبي العربي)، حيث يتم دمج عناصر من هذه التقاليد في عروض معاصرة، وقد تسعى بعض الأساليب الإخراجية إلى خلق حوار بين الثقافات، من خلال تقديم عروض تتناول قضايا عالمية أو دمج عناصر من ثقافات مختلفة، كما يمكن للأسلوب الإخراجي أن يكون وسيلة لتأريخ تحولات المجتمع وقيمه، من خلال عكس هموم الناس، وصراعاتهم، وتطلعاتهم.

وللإخراج المسرحي وخاصة لمسرح الطفل، دور تربوي وتنموي بالغ الأهمية، حيث تسعى الأساليب الإخراجية ذات البعد التربوي إلى، ومنها غرس القيم كاستخدام العرض المسرحي كوسيلة هامة لغرس القيم الأخلاقية والإنسانية، مثل (الصدق، والتعاون، والعدل، وإحترام الآخر) بطريقة غير مباشرة وممتعة، وتنمية المهارات من خلال تحفيز التفكير النقدي، وحل المشكلات، وتنمية الخيال والإبداع، وتطوير المهارات الاجتماعية لدى الأطفال، والتعليم والتوعية من خلال تقديم معلومات جديدة أو توعية الأطفال بقضايا معينة مثل (البيئة، والصحة، والسلامة) من خلال السرد الدرامي، إضافة إلى التفاعل والمشاركة، من خلال تشجيع الجمهور وخاصة الأطفال، على التفاعل مع العرض، سواء من خلال الحوار المباشر، أو المشاركة في بعض المشاهد، أو طرح الأسئلة، أيضًا المساهمة في بناء شخصية الطفل، وتعزيز ثقته بنفسه، وتنمية قدرته على التعبير عن ذاته.

تأسيسًا على ما سبق فإن عظمة الإخراج المسرحي فى مسرح الطفل تتجلى في قدرته على تجاوز مجرد السرد، ليصبح وعاءً يحمل أبعادًا متعددة الأوجه، جمالية تُلامس الروح، فنية تُدهش الحواس، ثقافية تُرسخ الهوية، وتربوية تُشكل الأجيال، المخرج المبدع هو من ينسج هذه الأبعاد ببراعة، ليقدم عرضًا لا يُنسى، ويثري التجربة الإنسانية.

شاهد أيضاً

رانيا يحيى تدشن كتاب الأدب المصري بالاكاديمية المصرية بروما

كتب : محمد جمال الدين الأكاديمية المصرية للفنون بروما برئاسة الأستاذة الدكتورة رانيا يحيى، نظت …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *