بقلم : د . محمد جمال الدين
يُعد الكاتب المصري عبده الزراع قامة شامخة في أدب الطفل العربي، فقد أثرى المكتبة بالعديد من الأعمال المسرحية التي لا تتميز فقط بجمالها الأدبي، بل بعمقها التربوي وثرائها الفني، إذ تعد أعماله المسرحية للطفل فضاءات إبداعية تغرس القيم وتُنمّي الوعي لدى النشء بطريقة غير مباشرة وممتعة، مستخدمًا في ذلك باقة من التقنيات الأسلوبية الكتابية الفريدة التي جعلت منه رائدًا في هذا المجال، إذ يمتلك تقنيات إبداعية تشعل الخيال وتُرسخ القيم.
يعتمد عبده الزراع في نصوصه المسرحية للطفل على استراتيجيات كتابية متقنة تضمن تفاعل الطفل وانجذابه للعمل الفني، ومن أبرز هذه التقنيات الخيال الواسع واعتماده على الخيال العلمي، علاوة على العوالم الفانتازي، إذ يبرع الزراع في نسج عوالم خيالية آسرة تأخذ الطفل في رحلة إلى فضاءات جديدة بعيدة عن المألوف، مما يوسع مداركه ويشعل شرارة الإبداع لديه، كما يوظف ببراعة عناصر الفانتازيا، كقدرة الحيوانات على الحديث، وكذلك الخيال العلمي مثل الإنتقال إلى كواكب بعيدة، أو حتى تجسيد الجماد، ليقدم أفكارًا عميقة ومعقدة في قالب قصصي شيق ومحفز للذهن.
يقدم الزراع طيفًا واسعًا من الشخصيات التي تتراوح بين البشر والحيوانات والكائنات الخرافية، وكل شخصية تُصاغ بعناية لتحمل سمات مميزة وأدوارًا مؤثرة في بناء الحبكة، تظهر هذه الشخصيات في شكل شخصيات رمزية، تجسد صفات أو قيمًا معينة كالخير والشر، الشجاعة والتواضع، مما يسهل على الطفل استيعاب الرسالة الأخلاقية وفهم الأبعاد الإنسانية.
يتميز أسلوب عبده الزراع بالبساطة والوضوح، دون التفريط في سلامة اللغة العربية وجمالها، إذ يستخدم جملًا قصيرة ومفردات سهلة الفهم تتناسب مع الفئة العمرية المستهدفة، مع إدخال بعض الألفاظ الفصيحة تدريجيًا لتعزيز الحصيلة اللغوية للطفل وإثراء قاموسه، كل ذلك دون إرهاقه أو تعقيد النص.
تعتمد مسرحيات الزراع على حوارات ديناميكية تعكس طبيعة كل شخصية وتدفع الأحداث إلى الأمام بسلاسة، كما أن الحوار عنده ليس مجرد كلام، بل هو أداة فعالة للتعبير عن المشاعر، وحل الصراعات، وإيصال الأفكار التربوية بشكل غير مباشر، كما نلمح في كثير من حوارات أعماله المسرحية للطفل روح الدعابة والمرح، مما يضمن جذب انتباه الطفل واستمرارية تفاعله.
يبني الزراع حبكات مسرحياته على صراعات بسيطة ومفهومة للطفل، سواء كانت صراعات داخلية تدور في نفس البطل مثل صراع البطل مع نفسه للتغلب على عيب ما، أو صراعات خارجية بين الشخصيات كصراع الخير والشر، ومن خلال هذه الصراعات، يطرح الزراع قضايا تربوية وأخلاقية جوهرة، مثل أهمية الصداقة والتعاون، وقيمة العلم والمعرفة، ومواجهة التحديات وحل المشكلات، وكذلك حب الوطن والبيئة، والتعامل مع المشاعر المختلفة، كما تُقدم الحلول لهذه الصراعات بطريقة تشجع الطفل على التفكير النقدي وتكوين قيمه الخاصة.
يولي الزراع اهتمامًا بالغًا لجميع عناصر العرض المسرحي، فالأشعار في نصوصه ليست مجرد إضافات، بل هي جزء لا يتجزأ من النسيج الدرامي، تخدم الحبكة وتضفي جوًا من المتعة والإبهار، كما أنه يترك مساحة كافية للإخراج المسرحي لتوظيف الديكور، الأزياء، والإضاءة بشكل إبداعي يثري التجربة الحسية للطفل، سواء كانت بصرية أو سمعية.
يُفضل عبده الزراع إيصال رسائله التربوية والأخلاقية بطريقة غير مباشرة وذكية، وذلك من خلال تسلسل الأحداث، وطبيعة الشخصيات، ومسار الحبكة، وهذا الأسلوب يسمح للطفل باكتشاف القيم والمعاني بنفسه، مما يعزز فهمه واستيعابه لها ويجعلها أكثر رسوخًا في ذهنه، بعيدًا عن التلقين الجاف.
لعبده الزراع قائمة طويلة من المسرحيات التي تُبرز قدرته الفائقة على تطبيق هذه التقنيات الإبداعية، منها على سبيل المثال لا الحصر مسرحية القلم المغرور، التي تقدم درس في التواضع والتعاون، كما تُعد هذه المسرحية نموذجًا بارزًا لاستخدام الزراع لتقنية تجسيد الجماد وتقديم الرسائل التربوية ضمن سياق مشوق، إذ تدور أحداثها حول قلم يغتر بنفسه ويتفاخر بأهميته بين الأدوات الكتابية داخل شنطة التلاميذ، ويتطور الصراع بين القلم المغرور وباقي الأدوات، حتى تأتي البراية التي تستطيع تقليم سنه وتُعيد له الحياة، وهنا يتعلم الطفل من هذه أن التعاون هو أساس النجاح، وأن لا أحد يستطيع العمل بمفرده، وأن التواضع أهم من الغرور، ويُقدم الزراع هذه الرسالة بسلاسة عبر حوارات بسيطة ومواقف طريفة بين الأدوات.
هناك أيضا مسرحية كوكب سيكا، وهي رحلة إلى عوالم الخيال العلمي، إذ تعد هذه المسرحية مثالًا حيًا على استخدام الزراع لتقنية الخيال الواسع وعوالم الخيال العلمي، إذ تُقدم المسرحية فكرة كوكب بعيد تسكنه كائنات ذات طباع خاصة، وتخوض هذه الكائنات مغامرات وصراعات مختلفة، وهنا يخلق الكاتب هذا العالم ليفتح آفاقًا واسعة لخيال الطفل، مستخدمًا شخصيات مبتكرة وأسماء ذات دلالات مثل الدكتور ممتاز، مع ظهور صراعات بسيطة تنتهي بحلول إيجابية تعزز قيمًا مثل العمل، والإنتاج.
فى مسرحية النقطة الضائع يبحر الزراع في عوالم اكتشاف الذات والقيمة، إذ تعالج هذه المسرحية مفاهيم فلسفية عميقة بطريقة مبسطة، وتدور فكرة المسرحية حول نقطة صغيرة تضيع من جملة، وتشعر باليأس وعدم الأهمية، وتبدأ النقطة رحلة بحث عن مكانها الحقيقي، وتلتقي خلالها بشخصيات تساعدها على فهم قيمتها، إنها رحلة اكتشاف للذات، تُعلم الطفل أن لكل فرد قيمة وأهمية مهما بدا صغيراً، وتشجعه على المثابرة.
تأسيسا لما سبق يمكن القول أن مسرحيات عبده الزراع تترك أثرًا عميقًا ومتعدد الأوجه على الأطفال، فهي ليست مجرد مصدر للترفيه، بل هي أدوات تربوية فاعلة، تعمل على تنمية الخيال والإبداع، من خلال تحفيز خيال الطفل وتشجعه على التفكير خارج المألوف، وغرس القيم والأخلاق، بطريقة غير مباشرة وممتعة، يتعلم الأطفال من خلالها قيمًا جوهرية كالتعاون، والعمل، والتواضع، وحب العلم، والصداقة، والأمانة، وحماية البيئة، مع تطوير المهارات اللغوية، إذ أن التعرض للغة العربية الفصحى المبسطة يثري حصيلتهم اللغوية ويحسن قدرتهم على التعبير.
يساعد مسرح الطفل عند عبده الزراع أيضا في تعزيز التفكير النقدي وحل المشكلات، وتجذب أعماله الأطفال إلى الفن المسرحي وتجعلهم يقدرون دوره المزدوج في الترفيه والتعليم.
يمتلك مسرح عبده الزراع للطفل نقاط تشابه واختلاف مع مسرح الطفل العالمي، مما يؤكد خصوصيته وتميزه، إذ نلمح تشابهات عالمية حيث
يتفق الزراع مع المسرح العالمي للطفل في التركيز على القضايا الشمولية مثل الصداقة، الشجاعة، الخير والشر، والعمل، والتي تُعد قيمًا عالمية في أدب الأطفال، كما يتشارك معه في توظيف الفانتازيا، والخيال العلمي، والحيوانات الناطقة كتقنيات شائعة لجذب الإنتباه وتسهيل إيصال الأفكار، ويبقى الجانب الترفيهي أساسيًا في كليهما، إلا أن هناك ما يميز عبده الزراع ويجعله يبحر وحده في عالم مسرح الطفل على الصعيد العربي والمحلي، ونلمح ذلك في ارتباط عبده الزراع العميق بالثقافة العربية، فعلى الرغم من عالمية القضايا، فإن مسرحه دائماً ما يستوحي من البيئة والقيم العربية الأصيلة، مستخدما إشارات ثقافية محددة تلامس وجدان الطفل العربي والمصري، كما يتميز بـالتركيز على اللغة العربية الفصحى التي تُقدم ببساطة وجاذبية، على عكس بعض الاتجاهات العالمية التي قد تميل لاستخدام العامية بشكل أكبر، كما يهتم الزراع بالبعد التربوي في أعماله ويكون واضحًا ومقصودًا، وإن قُدم بطرق غير مباشرة.
يتأكد الزراع دائمًا من أن القيم التي يقدمها تتناسب مع الفطرة السليمة والتربية السائدة في المجتمع العربي والمصري على وجه الخصوص، إذ يُعد عبده الزراع فنانًا تربويًا بامتياز في الكتابة لمسرح الطفل، كما استطاع أن يمزج بين الإبداع الفني والرسالة التربوية، ليقدم للأطفال تجارب مسرحية ثرية ومفيدة، فأعماله ليست مجرد ترفيه، بل هي بذور تُغرس في وعي الطفل، لتُنمي فيه القيم النبيلة وتحفز قدراته الإبداعية الفكرية، لذا يبقى مسرح عبده الزراع مرجعًا مهمًا لكل من يهتم بأدب الطفل وبناء جيل واعٍ ومبدع.