بقلم : د . محمد جمال الدين
يُعد التجريب أحد أهم المحركات الدافعة لتطور الفنون، والمسرح ليس استثناءً، ففي عالم مسرح الطفل، لا يقتصر التجريب على مجرد التجديد الشكلي، بل يمثل محاولة لإعادة تعريف العلاقة بين العرض والمتلقي الصغير، واستكشاف أساليب جديدة للتعبير، وتقديم رؤى فنية وفكرية مبتكرة تتجاوز الأطر التقليدية، إذ يُهدف التجريب بهذا المعنى إلى تحفيز خيال الطفل، وتوسيع مداركه، ومواجهة تحديات العلق في عصر يتسم بالتغيرات المتسارعة، وتُبرز التجربة المصرية في مسرح الطفل ديناميكية فريدة في هذا المجال، متأثرة بالسياقات العالمية والعربية، ومواجهة تحدياتها الخاصة.
والتجريب في مسرح الطفل هو عبارة عن عملية استكشاف وتجديد، على كافة مستويات العرض المسرحي بهدف كسر القوالب التقليدية بمعنى الإبتعاد عن الأشكال السردية والجمالية المألوفة، التي قد تُصبح مُستهلكة أو غير مُحفزة، وإستحداث لغات مسرحية جديدة أى توظيف عناصر غير تقليدية مثل الوسائط المتعددة، والتكنولوجيا التفاعلية، والأداء الجسدي المُبتكر، أو المزج بين الفنون المختلفة مثل (رقص، وموسيقى، وفنون بصرية)، مع إعادة تعريف العلاقة مع الجمهور وتشجيع التفاعل المباشر وغير المباشر، إشراك الطفل في صناعة العرض، أو كسر الحاجز الرابع بطرق غير متوقعة، ومعالجة قضايا جديدة أو قديمة بأساليب مبتكرة تناول موضوعات حساسة أو معقدة مثل (الهوية، والإختلاف، والتكنولوجيا، والبيئة) بطرق إبداعية تُناسب فهم الطفل، مع الخروج من فضاء المسرح التقليدي وتقديم العروض في أماكن غير مألوفة مثل (حدائق، شوارع، متاحف، فضاءات إفتراضية).
إلا أن التحدي الرئيس في التجريب بمسرح الطفل، يكمن في تحقيق التوازن بين الإبتكار وضرورة الحفاظ على وضوح الرسالة وجاذبية العرض للجمهور الصغير، مع مراعاة قدراتهم الإدراكية والنفسية.
وعلى الرغم من التحديات شهد مسرح الطفل المصري محاولات جادة للتجريب، متأثرة ببعض التجارب العالمية، ومُحاولًا في الوقت ذاته إستلهام خصوصيته الثقافية، فمنذ (ستينيات) القرن الماضي، ومع ظهور الرواد في مسرح العرائس، كانت هناك محاولات للخروج عن الأشكال التقليدية، من خلال السعى لتقديم تقنيات عرائس جديدة وأساليب سردية مبتكرة، وإن كانت في إطار ما كان يُعتبر تجريبيًا في وقته، ولا يزال مسرح العرائس هو الساحة الأبرز للتجريب في مصر، فهناك مخرجون شباب يسعون لتقديم أشكال جديدة للعرائس مثل (العرائس العملاقة، وعرائس العصا ذات التقنيات المتطورة، وعرائس الطاولة)، ودمجها مع تقنيات الفيديو (بروجكشن)، أو الإضاءة الديناميكية، كما شهدت بعض العروض عودة لـخيال الظل، ولكن برؤى إخراجية حديثة، تُوظف الموسيقى المعاصرة والمؤثرات البصرية.
بدأت أيضًا بمرور الوقت بعض العروض المصرية في دمج الشاشات الكبيرة، لعرض الرسوم المتحركة أو مقاطع الفيديو كخلفيات ديناميكية، أو لإضافة شخصيات افتراضية تتفاعل مع الممثلين، وهو ما يُضفي على العرض بُعدًا بصريًا جذابًا للطفل المُعاصر، كما حاولت بعض العروض المصرية زيادة تفاعل الطفل، كدعوته لإطلاق بعض الأصوات، أو ترديد الأغاني، أو المشاركة في بعض الألعاب الخفيفة أثناء العرض، وإن كان المسرح التفاعلي بمعناه الشامل لا يزال في بداياته في مصر، إلا أن هذه المحاولات تُعد خطوة نحو كسر الجمود.
يقدم أيضًا بعض مخرجى مسرح الطفل المصرى عروضًا من التراث الشعبي المصري أو العربي، مثل (حكايات ألف ليلة وليلة)، ولكن بأسلوب تجريبي في الديكور أو الأزياء أو الأداء، كما تُقدم بعض الفرق المستقلة والمراكز الثقافية ورش عمل لمسرح الطفل، تركز على التجريب في الأداء، أو استخدام مواد بسيطة لصنع العرائس والديكورات، أو تطوير قصص جماعية، وهذه الورش تُعد فضاءً خصبًا للتجريب التربوي، الذي يهدف إلى تنمية قدرات الطفل الإبداعية.
تأسيسًا على ما سبق فإن التجريب في مسرح الطفل ليس مجرد نزوة فنية، بل هو ضرورة حتمية لمواكبة التغيرات السريعة في عالم الطفل، ولضمان استمرار المسرح كفن حي ومُحفز للإبداع والتفكير النقدي، فمن الأشكال المبتكرة لعرائس الظل العالمية، إلى المسرح التفاعلي الذي يُشرك الطفل في السرد، وحتى محاولات المسرح المصري في دمج التكنولوجيا وإعادة صياغة التراث برؤى عصرية، تظهر رغبة مستمرة في كسر الحواجز التقليدية.
وعلى الرغم من التحديات الهائلة، خاصة في على المستوى العربي والمصري، الذي يعاني من ضعف التمويل ونقص البنى التحتية، إلا أن هناك بصيص أمل في جهود المخرجين الشباب والفرق المستقلة، التي تُجاهد لتقديم عروض مسرحية تجريبية مُلهمة لأجيال المستقبل، لدفع عجلة التجريب في مسرح الطفل المصري، لذا يجب أن يكون هناك دعم مؤسسي أكبر، وإستثمار في تدريب الكوادر، وتشجيع للبحث العلمي، وخلق مساحات آمنة للمخرجين لتجربة أفكارهم، لتظل خشبة المسرح فضاءً رحبًا للخيال والإبتكار لأطفالنا.