بقلم : د . محمد جمال الدين
يُعد الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف واحدًا من أهم الرواد الذين كرسوا جهودهم لإثراء نصوص مسرح الطفل في مصر والعالم العربي، مقدمًا أعمالًا لا تكتفي بترفيه الصغار، بل تمتد لتغرس فيهم قيمًا نبيلة وتفتح آفاقًا للتفكير والتأمل، وبالنظر والتدقيق ودراسة أعماله من مختلف الجوانب الدرامية والجمالية والفنية، تكتشف أنك أمام كاتب يمتلك رؤية فريدة وتقنيات كتابية متطورة، أهلته ليضع بصمته الواضحة في هذا المجال الحيوي.
تتسم تقنيات الكتابة المسرحية للطفل عند محمد عبد الحافظ ناصف بعدة جوانب مهمة، منها معالجة القضايا الاجتماعية بأسلوب مبسط، إذ يهتم ناصف بتناول قضايا مجتمعية مهمة ومناسبة لعمر الطفل، ويقدمها بأسلوب مبسط وشيق يسهل على الأطفال فهمها واستيعابها، فعلى سبيل المثال، تناولت بعض أعماله قضية التنمر بأنواعه المختلفة، كما ورد في دراسات تحليلية لأعماله مثل مسرحية علقة تفوت، ومسرحية سجين الهاء والواو، وهو ما يساهم في توعية الطفل بالقضايا المحيطة به وتنمية وعيه الاجتماعي.
يعمد ناصف أيضا إلى توظيف الرمز بوضوح وبشكل مباشر لضمان وصول المعنى إلى الفئة العمرية المستهدفة، فالرمز لديه لا يهدف إلى التعقيد، بل إلى إثراء النص وتعميق الفكرة دون أن يفقد الطفل القدرة على الفهم، كما يظهر في مسرحية الفلنكات ذات الإسقاط السياسي والتى تدور حول أزمة الوجود الإنسانى، كما يعتمد ناصف على حوار سهل وواضح يتناسب مع قدرات الأطفال اللغوية والإدراكية، إذ يحرص على أن يكون الحوار محفزًا للتفكير، ومشجعًا على المشاركة، ويحمل رسائل تربوية وأخلاقية بشكل غير مباشر وممتع، مما يجعل الأطفال يتفاعلون مع الشخصيات والأحداث، كما يخلق ناصف أيضا شخصيات قريبة من عالم الطفل، سواء كانت شخصيات بشرية أو حيوانية أو حتى جمادات، مثلما هو الحال في مسرحيته السبورة الغاضبة، وهذه الشخصيات تحمل صفات مميزة وتمر بمواقف يتعلم منها الطفل دروسًا حياتية، وتساعده على فهم المشاعر والعلاقات الإنسانية، كما يميل إلى إضافة شخصيات جديدة تثري الحدث الدرامي، وتؤكد على الأفكار المطروحة.
تتميز أعمال ناصف المسرحية للطفل بكونها تجمع بين المتعة والتسلية من جهة، والبعد التعليمي والتربوي من جهة أخرى، إذ يسعى إلى تقديم نصوص مسرحية تجذب الأطفال وتشدهم، وفي الوقت نفسه تغرس فيهم قيمًا أخلاقية وإنسانية ومعرفية، مما يسهم في بناء شخصيتهم وتنمية مداركهم، كما يحرص ناصف على بناء حبكات درامية مشوقة تحافظ على انتباه الطفل، وتجعله يتابع الأحداث بشغف، إذ يستخدم عناصر المفاجأة والصراع والحلول الإيجابية التي تمنح الأمل، وتترك أثرًا إيجابيًا في نفس الطفل.
يستلهم أيضا ناصف التراث و بعض الجوانب الثقافية في أعماله، ويتضح ذلك في اهتمامه بتطوير فن الأراجوز ليقدم قضايا مجتمعية حديثة.
أهم ما يميز أسلوب ناصف في كتاباته المسرحية للطفل البناء المحكم واللغة المُحكمة، والتى تُظهر وعيًا عميقًا بجمهورها المستهدف، فهو لا يكتفي بسرد الحكايات، بل يبني دراماته بحرفية عالية، كما يعتمد على بناء درامي محكم، حيث تتطور الأحداث بشكل منطقي وجذاب، مع تقديم حبكة واضحة المعالم تحتوي على تصاعد وتأزم ثم حل.
تبدأ مسرحيات ناصف دائماً بمقدمة شيقة تُعرف بالشخصيات والمكان، ثم تتصاعد الأحداث لتصل إلى ذروة تُثير فضول الطفل، وتنتهي بخاتمة تحمل رسالة واضحة، وهذا البناء يساعد الطفل على متابعة الأحداث وفهمها بيسر، كما يعلمه التسلسل المنطقي للأحداث، إضافة إلى ذلك يستخدم ناصف لغة سهلة وواضحة تناسب فهم الطفل، ولكنها ليست سطحية أو مبتذلة، كما يميل إلى توظيف الجمل القصيرة والواضحة، مع الإبتعاد عن التعقيد اللغوي، ومع ذلك فهو لا يخشى من إدخال بعض المفردات الجديدة أو التعبيرات التي تُثري قاموس الطفل اللغوي، مقدمًا إياها في سياق يسهل استيعابها، كما يبرع أيضًا في استخدام الحوار الحيوي الذي يعكس شخصية كل كائن أو شخصية في النص، مما يجعل الحوارات ديناميكية وغير مملة، لذا نلمح بوضوح أن شخصيات ناصف ليست مسطحة، ودائما ما تكون لديها سمات مميزة وأهداف واضحة، وتمر بتجارب تُغيرها أو تُعلمها شيئًا، سواء كانت الشخصيات بشرية، أو حيوانية، أو حتى كائنات خيالية، إذ تتفاعل مع بعضها البعض، ومع الأحداث بطريقة تُظهر جوانب مختلفة من شخصياتها، مما يمنح الطفل فرصة للتعاطف معها أو التعلم منها.
يتجاوز ناصف السرد المباشر في كثير من الأحيان ليستخدم الرمزية كما سبق وذكرنا، ولكن بطريقة مُبسطة وشفافة يسهل على الطفل فهمها، وهذه الرمزية قد تكون في اختيار أسماء الشخصيات، أو في الأحداث المتتالية، وهذا الأسلوب يُنمي لدى الطفل القدرة على التفكير النقدي وتفسير المعاني الخفية، مما يُعد تدريبًا مبكرًا على الفهم العميق.
تنبع فلسفة محمد عبد الحافظ ناصف في نصوصه لمسرح الطفل من إيمانه العميق بأن المسرح ليس مجرد مكان للترفيه، بل هو أداة قوية للتربية والتنوير، لذا تتركز فلسفته والتى تتضح في كتاباتها لمسرح الطفل على عدة محاور رئيسية، منها غرس القيم الأخلاقية، إذ يعتبر ناصف المسرح وسيلة أساسية لغرس القيم النبيلة في نفوس الأطفال، فمسرحياته تُركز على قيم مثل الصداقة، الأمانة، التعاون، الشجاعة، حب الوطن، احترام الكبير، والرحمة بالصغير، وهذه القيم لا تُقدم بشكل وعظي مباشر، بل تُجسد من خلال سلوكيات الشخصيات وتفاعلاتها، وتكون جزءًا لا يتجزأ من النسيج الدرامي، كما لا يكتفي ناصف بتقديم الأجوبة للطفل، بل يسعى إلى إثارة تساؤلات في ذهنه، إذ أن مسرحياته دائماً ما تطرح قضايا تتطلب من الطفل التفكير فيها، وتُعلمه كيفية التوصل إلى حلول أو استنتاجات بنفسه، وهو ما يشجع على التفكير النقدي والإبداعي، ويُنمي مهارات حل المشكلات لدى الصغار.
يؤمن ناصف بأن عقل الطفل ليس صفحة بيضاء تنتظر أن تُملأ، بل هو كائن مفكر قادر على الاستيعاب والفهم، لذا لا يُقدم محتوى مُسطحًا أو مُبسطًا بشكل مبالغ فيه، بل يُقدم تحديات فكرية مناسبة لعمر الطفل، مما يُشعره بالاحترام والتقدير، كما تُسهم أعمال ناصف في تعزيز الهوية الثقافية للطفل المصري والعربي، فهو يستلهم في بعض أعماله التراث والحكايات الشعبية، ويُعيد صياغتها بطريقة تُناسب العصر الحديث، مما يُعزز انتماء الطفل لتراثه ويُعرفه بقيمه وتقاليد، إضافة إلى ذلك يتناول ناصف قضايا اجتماعية مهمة مثل أهمية العلم، النظافة، أو مخاطر بعض السلوكيات، ولكنه يُقدمها بأسلوب لطيف وغير مباشر، يضمن وصول الرسالة دون أن يشعر الطفل بالضغط أو الإجبار.
وعليه تتجاوز أعمال محمد عبد الحافظ ناصف مجرد النص المكتوب لتُصبح تجربة مسرحية متكاملة، تتميز بالعمق الفني والجماليات، إذ يُولي ناصف اهتمامًا كبيرًا للجانب الجمالي في أعماله، من حيث الإرشادات والوصف التفصيلي، وكلها تُشير إلى رؤية فنية متكاملة للنص، إذ يُدرك أن مسرح الطفل يعتمد بشكل كبير على العناصر البصرية والسمعية لجذب الانتباه وإيصال الرسالة.
تظهر في أعمال ناصف المسرحية أيضا الرسالة الواضحة والهدف التربوي، فعلى الرغم من العمق الفني، فإن أعمال ناصف لا تفقد أبدًا رسالتها الواضحة وهدفها التربوي، إذ أن كل نص من نصوص ناصف تحمل مغزى أخلاقيًا أو قيمة تُسعى لترسيخها، مما يجعلها أداة تعليمية فعالة، مع القدرة على مخاطبة مختلف الأعمار، فعلى الرغم من أنها موجهة للطفل، فإن أعمال ناصف دائما ما تحتوي على مستويات متعددة من المعنى، مما يجعلها ممتعة للكبار أيضًا، وهو ما يسمح للوالدين والمعلمين بالاستمتاع بالنص مع الأطفال، وربما بمناقشة الرسائل الكامنة معهم.
لم يحصر ناصف نفسه في موضوع واحد، بل تنوعت أعماله بين الخيالي والواقعي، والتاريخي والاجتماعي، مما أثرى مكتبة نصوص مسرح الطفل وقدم للصغار عوالم متعددة لاستكشافها.
تأسيسا على ما سبق يظل الكاتب محمد عبد الحافظ ناصف علامة فارقة في مسرح الطفل، بفضل رؤيته الثاقبة، وتقنياته الكتابية المتقنة، وفلسفته التي تجمع بين المتعة والفائدة، إذ إن أعماله ليست مجرد نصوص تُقدم على خشبة المسرح، بل هي بوابات تفتح أمام الأطفال عوالم من المعرفة والخيال والقيم، مُسهمة بذلك في بناء أجيال واعية ومُدركة لذاتها ومُحبة للحياة.