كتب مصطفى قطب
في صفحات التاريخ الإسلامي المشرقة، تبرز أسماء نسائية خلدها الإيمان والعلم والعمل. ومن بين تلك الأسماء، يسطع نجم الصحابية رفيدة بنت سعد الأسلمية، التي يُجمع المؤرخون على أنها أول امرأة مارست الطب والتمريض في صدر الإسلام، بل وأول من أنشأت وحدة طبية ميدانية في ساحة المعركة.
امرأة سبقت عصرها
ولدت رفيدة في المدينة المنورة لأسرة من قبيلة بني أسلم، وعرفت منذ صغرها بحبها للعلم وخدمة الناس، وخاصة في مجال العلاج والطبابة. تأثرت برغبتها في علاج المرضى فبدأت تكتسب المهارات من والدها، الطبيب سعد، ثم طورت خبرتها مع الوقت حتى أصبحت طبيبة متميزة في مجتمعها.
لم تكن رفيدة ممرضة فحسب، بل كانت قائدة صحية أسست نموذجًا متطورًا للرعاية الطبية في زمن لم تكن فيه مهنة التمريض معروفة.
خدمة المرضى في سبيل الله
عُرفت رفيدة بخدمتها للمصابين والجرحى من الصحابة، وكانت ترعى المرضى بروح الإيمان، وتعمل على تضميد جراحهم ومساعدتهم في التعافي. وكانت تشرف على خيمة إسعاف ميدانية قرب المسجد النبوي، بل وتنقلت بهذه الخيمة إلى ميادين الجهاد.
وقد أذن لها النبي محمد ﷺ بأن تنصب خيمتها داخل المعسكر لعلاج الجرحى، وكان من أشهر من عالجتهم هو الصحابي الجليل سعد بن معاذ في معركة الخندق، بعد إصابته بسهم.
تمكين المرأة في زمن الرسالة
شكلت شخصية رفيدة مثالاً حيًا على دور المرأة في المجتمع الإسلامي، الذي لم يحصرها داخل البيت، بل مكنها من العمل في مجال إنساني حساس كالرعاية الصحية. ولم تقتصر رفيدة على التطبيب وحدها، بل درّبت فتيات المدينة على فنون التمريض والتمهيد الطبي، لتكوين طاقم نسائي قادر على دعم المقاتلين والمرضى.
وقد شهدت معارك بدر وأحد والخندق، وأسهمت بجهدها في رعاية الجنود المسلمين، ونالت تقدير النبي ﷺ الذي أثنى على عطائها وأمر بتخصيص سهم لها من الغنائم، كما يُعطى للمجاهدين.
رؤية متقدمة للطب
رغم قلة الأدوات الطبية في ذلك العصر، عرفت رفيدة بأخلاقياتها العالية، إذ كانت تُعامل مرضاها باللطف والحنان، وتركز على الدعم النفسي والمعنوي إلى جانب الرعاية الجسدية، وهو ما يعد اليوم من أسس الرعاية الطبية الحديثة.
لم تكن رفيدة تميز بين غني وفقير، ولا بين رجل أو امرأة، بل كانت تؤمن بقدسية الإنسان، وتعاليم الإسلام التي تحث على الإحسان للضعفاء والمرضى.
إرث خالد
خلّدت رفيدة بنت سعد اسمها في تاريخ الطب الإسلامي، واعتبرها المؤرخون رمزًا للمرأة العاملة، القوية، المؤمنة، والمثقفة. واليوم، تُعد ملهمة لكثير من النساء في العالم الإسلامي، خاصة من يعملن في التمريض والطب.
وقد أطلقت بعض الدول الإسلامية جوائز طبية باسمها، مثل “جائزة رفيدة الأسلمية للتمريض”، تخليدًا لدورها الريادي، وإحياءً لقصة امرأة قدمت نموذجًا راقياً للعلم والخدمة الإنسانية في ظل الإسلام.
رفيدة الأسلمية لم تكن مجرد ممرضة، بل كانت رسولة رحمة في ميادين الحرب والسلم، وشاهدة حية على مكانة المرأة في صدر الإسلام. ومثلها يُثبت أن الدين الإسلامي أعطى للمرأة مكانة رفيعة في التعليم والعمل والمشاركة المجتمعية.