كتب مصطفى قطب
في ظلال الإسلام، سطعت أسماء لنساء خالدات، قدّمن أرواحهن، وعقولهن، وأخلاقهن في سبيل الدين والدعوة، وكنّ رموزًا للثبات والعزم. ومن بين هذه النماذج المضيئة تبرز نسيبة بنت كعب الأنصارية، التي لا يمكن أن تُذكر الشجاعة النسائية في الإسلام دون أن تتصدر سيرتها القائمة.
كانت نسيبة امرأةً عظيمةً في زمن عظيم، تميّزت بقوة الشخصية، والهمة العالية، والتفاني في نصرة رسول الله ﷺ، حتى لقّبها البعض بـ”الشهيدة الحية”، ووصفتها كتب السيرة بأنها “درع من لحم ودم” وقفت تذود عن النبي يوم أحد.
نسبها ونشأتها
نسيبة بنت كعب بن عمرو، من بني مازن بن النجار، وهي من المدينة المنورة، وتُكنى بـ”أم عمارة”. كانت من أوائل النساء في الأنصار دخولًا في الإسلام، وأسلمت في وقت مبكر مع زوجها وأبنائها، وكان لها من الأبناء عبد الله وحبيب، اللذان شاركا أيضًا في غزوات مع النبي ﷺ.
كانت نسيبة من نساء بني النجار، أي من أقارب النبي ﷺ من جهة الأم، وهو ما جعلها تحظى بقربٍ روحي وعاطفي كبير من الرسول الكريم.
موقفها في بيعة العقبة
من أبرز المحطات الفارقة في حياة نسيبة مشاركتها في بيعة العقبة الثانية، وكانت من أوائل النساء اللاتي بايعن النبي ﷺ. ويُروى أن رسول الله قال يومها:
“بايعنني على ألا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن…”
وكانت نسيبة ممن بادرن بالبيعة، وأكدت على التزامها الكامل، ليس فقط بالدين، بل أيضًا بالدعوة إليه ونصرته مهما كلفها الأمر.
شجاعتها في معركة أحد
عُرفت نسيبة بنت كعب بشجاعتها الأسطورية في غزوة أحد، حين تفرّ الرجال عن النبي ﷺ بعد أن باغتتهم كتائب قريش، ولم يبق معه سوى قلة، من بينهم هذه المرأة العظيمة.
كانت نسيبة في البداية تحمل القِرَب لإسعاف الجرحى، لكن ما إن رأت خطرًا يهدد النبي، حتى أمسكت سيفًا وترسًا، واقتحمت صفوف المشركين تدافع عن رسول الله دفاعًا مستميتًا.
قال رسول الله ﷺ عنها:
“ما التفتّ يمينًا ولا شمالًا يوم أحد، إلا وأنا أراها تقاتل دوني”.
وقد أصيبت في هذه المعركة بأكثر من 12 طعنة وجُرحًا في جسدها، وظلت صامدة حتى آخر لحظة. وحين علم النبي بجراحها، دعا لها وقال:
“اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة”.
دورها في الحروب والدعوة
لم يكن موقف أحد حادثًا فرديًا في حياة نسيبة، بل كانت دومًا حاضرة في ساحات الجهاد والكلمة. شاركت في عدة غزوات، منها غزوة حنين وغزوة اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق، وهناك قُطع ذراعها في القتال، وكانت قد بلغت سنًا متقدمة، لكنها لم تتخل عن واجبها.
كما شاركت في العمل الدعوي والتربوي، وكانت من القليلات اللائي روين الأحاديث عن النبي ﷺ، وروى عنها ابنها عبد الله، وعدد من التابعين.
موقفها من المرتدين
بعد وفاة النبي ﷺ، واصلت نسيبة دورها في حماية الإسلام، وكان لها موقف مشهود في حرب المرتدين، خاصة ضد مسيلمة الكذاب، في معركة اليمامة، حيث قاتلت بنفسها إلى جانب ابنها حبيب، الذي كان قد استُشهد على يد مسيلمة بطريقة بشعة، حين رفض الردة وقطع مسيلمة جسده قطعة قطعة.
هذا المصاب زاد نسيبة عزيمةً، وكانت تقول:
“الحمد لله الذي شرفني باستشهاد ابني في سبيل الله، ولو كان لي عشرة أبناء لفديتهم جميعًا بهذا الدين”.
علمها وثقافتها الدينية
لم تكن نسيبة مجرد مقاتلة أو فارسة، بل كانت من النساء الواعية المتفقهات، تسأل النبي ﷺ عن الدين، وتسعى لفهم الأحكام. ومن أشهر مواقفها أنها سألت النبي يومًا:
“يا رسول الله، ما لنا لا يُذكرنا القرآن كما يُذكر الرجال؟”
فنزلت الآية الكريمة:
“إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات…” (الأحزاب: 35)
فكانت نسيبة من أوائل من عبّرن عن صوت المرأة في الإسلام، وأكدن على حقها في الذكر والتكريم والمشاركة.
وفاتها وإرثها
توفيت نسيبة بنت كعب في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نعاها المسلمون كـ”امرأة من طراز فريد”، كانت نموذجًا متكاملًا في الإيمان والجهاد، العلم والعمل، الشجاعة والعقل.
تركَت إرثًا خالدًا في ذاكرة الأمة، وأصبحت قصة حياتها تُدرّس في كتب السيرة للنساء والرجال، باعتبارها رمزًا للبطولة الأنثوية في الإسلام.
نسيبة بنت كعب ليست فقط اسمًا في كتب التاريخ، بل قدوة حقيقية لكل فتاة وامرأة في عصرنا، تعلّمنا أن الإيمان قوة، وأن الدفاع عن المبادئ لا يقتصر على الرجال، وأن المرأة المسلمة قادرة على الجمع بين الرقة والشجاعة، الأمومة والفداء، الحياء والعلم.
في زمن تحتاج فيه الأمة إلى رموز ملهمة، تبقى سيرة نسيبة شعلةً تنير دروب الفتيات والنساء نحو العزة والكرامة والتأثير الحقيقي في المجتمع.