الأحد , يوليو 6 2025

صحابة النبي.. عبد الله بن عمر.. فقيه الصحابة وزاهدهم

 كتب مصطفى قطب

في زمن تشكَّلت فيه ملامح الأمة الإسلامية، وكان لكل صحابي دور مؤثر في بناء لبناتها الأولى، برز شاب عرف بالورع والعلم والزهد، هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، ابن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، وأحد أبرز رواة الحديث، وفقيه من فقهاء المدينة السبعة الذين نهلوا من معين النبوة مباشرة، ثم شكّلوا جزءًا كبيرًا من التراث التشريعي الإسلامي في العقود التالية.

 

نشأته في بيت الخلافة والتقوى

 

وُلد عبد الله بن عمر في السنة الثالثة من البعثة النبوية بمكة، أي قبل الهجرة بنحو عشر سنوات، في بيتٍ ملؤه الصدق والقوة. والده هو الفاروق عمر بن الخطاب، أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد أعمدة الدولة الإسلامية، وأمه زينب بنت مظعون، أخت الصحابي الجليل عثمان بن مظعون، مما يجعل جذوره ممتدة في أوساط الصحابة الأتقياء.

 

نشأ عبد الله في بيت لا يعرف إلا الصدق، ولا يسير إلا على طريق الحزم، فتشرّب التقوى منذ صغره، وكان ذلك ظاهرًا في حياته كلها، حيث لازم النبي ﷺ منذ شبابه، وكان يتمنى الخروج معه في الغزوات، لكن صِغر سنه حال دون ذلك في غزوتي بدر وأحد.

 

أول جهاد… وأول دروس الفداء

 

سمح له النبي صلى الله عليه وسلم بالمشاركة في غزوة الخندق، وكان في الخامسة عشرة، لتبدأ رحلته الفعلية في ميادين الجهاد، لكنه رغم ذلك لم يُعرف بكثرة غزواته بقدر ما عُرف بعلمه وتورعه.

 

كان عبد الله شديد الحرص على تقليد النبي ﷺ في كل شيء، حتى إن الصحابة كانوا يضربون به المثل في تتبع السنة بدقة. وكان يقول: “ما تركت شيئًا من سُنن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فعلته”. كان يمشي حيث مشى، ويصلي حيث صلى، حتى إنه إذا رأى النبي قد نزل مكانًا لقضاء حاجته نزل مثله إن أمكن.

 

أحد أكثر الصحابة روايةً للحديث

 

كان عبد الله بن عمر من أكثر الصحابة روايةً للحديث، حيث روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من 2600 حديث، تأتي في الترتيب الرابع بعد أبي هريرة وعائشة وأنس بن مالك رضي الله عنهم جميعًا. وكان من أشد الصحابة تدقيقًا في النقل، لا يروي حديثًا إلا إذا تأكد من سماعه شخصيًا من النبي أو من شاهد عيان ثقة.

 

ولم يكن مجرد ناقل للحديث، بل فقيهًا متأملاً، يُفتِي الناس وهو على خوف ووجل، ويقول أحيانًا: “لا أدري، هذا من أمر الله”. وهذه العبارة وحدها تلخص ورعه وحرصه على عدم التزيد في الدين.

 

كان ابن عمر من الزاهدين في الدنيا بحق. أُثر عنه أنه كان يرفض عطايا الخلفاء، ويرفض المناصب، وكان يبيت على جريد النخل، ويأكل من الخبز الجاف، ويمشي في الأسواق لا يعلو صوته، ويواسي المساكين، ويُعرف بجوده وكرمه حتى مع العبيد.

 

وقد روى عنه نافع مولاه أنه كان يعتق في بعض الليالي عشرين مملوكًا دفعة واحدة، ويقول: “لعل الله يعتقني بهم من النار”. وكان يشتري العبيد الذين يُساء إليهم ثم يعتقهم إذا رأى فيهم خيرًا.

 

موقفه من الفتنة.. درسٌ في النزاهة والصدق

 

من أعظم ما يُذكر لابن عمر موقفه أثناء الفتنة الكبرى التي دارت بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، إذ رفض أن يكون طرفًا في أي قتال بين المسلمين. اعتزل الفتنة بكل صورها، ولم يُناصر أي طرف بالسلاح، بل كان يدعو للصلح وحقن الدماء. وقال قولته المشهورة: “من فتح باب الفتنة فإنه لا يُغلق حتى تقوم الساعة”.

 

بل إن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عرض عليه الخلافة قبل توليه، فرفضها، وعندما ألحّ عليه، قال: “إن كنت تريد أن تصل إلى هذا الأمر فخذ طريقًا غير طريقي”. وكان يُؤثر الآخرة على الدنيا، ويؤمن أن الحكم مسؤولية عظيمة لا تُعطى لمن يطلبها، بل لمن يُجبَر عليها كما جُبر عليها أبو بكر وعمر.

 

منهجه في الفتوى.. ثبات واعتدال

 

من ميزات ابن عمر في الفقه أنه لم يكن ميالًا للتشديد، لكنه أيضًا لم يكن متساهلًا. كان يوازن بين النص والواقع، وكان يقول: “من شَبِه عليه أمر فليعرضه على أمر النبي صلى الله عليه وسلم”، أي لا يبتدع من عنده وإنما يُعيد النظر في هدي النبي.

 

وكان كثيرًا ما يُفتِي من كتاب الله ثم من سنة النبي، فإن لم يجد، قال: “لا علم لي”. وهذه الشفافية هي ما أكسبته ثقة الناس على مر العصور.

 

وفاته.. دموع العلم والزهد

 

توفي عبد الله بن عمر رضي الله عنه في مكة المكرمة عام 73 هـ عن عمر ناهز 84 عامًا، بعد حياة ملؤها العلم والعمل والعبادة والزهد. وكان موته فاجعة للمدينة، لما كان له من مكانة وهيبة، ليس فقط باعتباره ابن الخليفة عمر، ولكن لأنه عاش نقيًا مثلما عاش أبوه، ومات وهو يحمل همّ الإسلام ويدعو للوحدة والصدق ونبذ الفرقة.

 

عبد الله بن عمر ليس مجرد راوي حديث، ولا مجرد صحابي من الجيل الأول، بل هو مدرسة قائمة بذاتها في الصدق، في النزاهة، في الإخلاص. لم يغره المال، ولم يسعَ للسلطة، بل آثر أن يكون في الصفوف الخلفية وهو من أعظم الرجال، لأنه علم أن النجاة في اتباع رسول الله ﷺ، وفي السكون حين تشتعل الفتن، وفي الحذر حين تُعرض المناصب.

 

رحم الله عبد الله بن عمر، كان صادقًا مع الله، صادقًا مع الناس، وصادقًا مع نفسه، فكتب الله له القبول في الدنيا، ونحسبه من أهل الجنة في الآخرة.

شاهد أيضاً

نساء في الاسلام.. زينب بنت خزيمة.. أم المساكين

كتب مصطفى قطب في زوايا التاريخ الإسلامي المضيء، يبرز اسم زينب بنت خزيمة الهلالية، واحدة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *